مناطق نت.. مرّة جديدة

قبل انتشار البث الحي وقبل ظهور الانترنت ووسائل التواصل، تساءل الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو بإنكار “كيف يمكن أن تقع أحداثاً فائقة الأهمية كل يوم؟”، فأجابه موافقاً مواطنه الروائي الشهير خورخي لويس بورخيس “فضلاً عن ذلك، لا يعرف أحد مسبقاً ما هي؟ اكتسب صلب المسيح أهمية في ما بعد ، وليس في حينه، عندما حدث. ولذلك فإنني لم أقرأ أي جريدة قط…”.

ماذا سيقول هذان الروائيان الكبيران في مثل هذه الأيام؟ حيث وسائل الإعلام أكثر عددا من الأحداث، ولكل حدث يومي ولو كان بسيطاً وفي آخر زاوية نائية من هذا الكون، له عشرات وسائل الإعلام تنشره وتبثه وتحلله وتعلّق عليه، ثم يعقبه حدث آخر يجعله أثراً بعد عين.

نادراً ما يكون هناك شيء جديد تحت الشمس، وهذا الجديد لا يحتاج لأكثر من وسيلة إعلام واحدة كفيلة بسد الاحتياجات الخبرية لكل الكون، وليس بالضرورة أن تكون على مدار الدقيقة والساعة واليوم، ولا يبالغ ساباتو، بتفضيله “نشر جريدة كل سنة أو كل قرن. أو عندما يحدث شيء يتسم بالأهمية حقاً..”.

“أن الاخبار لا تخبر منذ أيام ارسطو، إلا عن أمرين: المهول والمثير للشفقة”، هذ ما استنتجه فيلسوف فرنسي كان يعلق يومياً ولمدة شهر ليشرح المستجدات (الأخبار – نيوز). وعليه رواج الاخبار وانتشارها ليست على ما تنطوي من تنوير ومعرفية، إنما متعلقة بمنسوب ما تحمله من الاستهوال والإشفاق، أي بنفاذها إلى المشاعر والعواطف ومما يتضارب مع اعتيادات البشر، تحتاج إلى خلفية لتشتغل عليها، وما تصنعه لا تصنعه من ذاتها.

لا بل أكثر من هذا، ولو وضعنا جانباً الاخبار الزائفة التي تُغرقنا بها يوميا وسائل الإعلام ووسائل التواصل. علينا أن نعرف أن للخبر (ولو كان صحيحا) غاية لا ينشد فيها المعرفة بقدر ما يهدف إلى تكوين انطباعات وتصورات تخدم ناشره باستنزاف متلقيه.

كل هذا، لنقول لماذا عنواننا أعلاه “مناطق نت..مرّة جديدة”؟ سابقاً انخرطنا عن قصد في لعبة الأخبار وتحليلها والتعليق عليها، وحققنا نجاحات مقارنةً مع مواقع إعلامية أخرى، وأدركنا متأخرين سخافة اللعبة التي نشارك بها، لعبة تنقاد لما يسمى حدثاً ولا تقوده، لا معرفة فيها ولا متعة، لكن كان هناك ما يعزّينا، أن هامشاً من موضوعاتنا السابقة كان ينحو نحو إعلاماً آخر نفتقده، هو هذا الهامش، هو الذي سيكون المتن في تجربتنا الجديدة، وما كان متناً لن يصبح هامشاً فحسب، بل تخلينا عنه نهائياً.

سنبحث عن الجديد أو عن الحدث، فيما سبقه، نادراً ما ينولد الحدث دفعة واحدة أو ينجلي بشكل كامل لحظة نشره، له طفولته قبل أن يبلغ، هو في التفاصيل الصغيرة أو المهمشة أو المنسية، هناك حيث يتبرعم  ويُسمى فيما بعد حدثاً وثم يكون زهراً لاحقاً. لم يعد سرّ المهنة حيثما كان، حتى لم تعد للمهنة أسرارها في عالم من أقصاه إلى أقصاه يرزح تحت قوة هائلة ما فوق إنسانية، حتى في تلك الدول التي ندعوها بالعظمى أفلت العالم من بين يديها، وعالم آخر ما زالت تجهل ملامحه يُطبق عليها.

أين ستكون “مناطق نت..مرة جديدة”؟ أين سيكون حدثها وخبرها ومكانها؟ سيكون اشتغالنا في مناطقنا الجنوب والبقاع وسائر الأطراف، وانشغالنا سيكون بالتفاصيل الصغرى أو الذكية في هذه المناطق،  تلك التفاصيل والأشكال التي تخفي حمولاتها الثقافية والسياسية والاجتماعية ولا تثير الانتباه بمفاعيلها، وتلك التي يقول عنها المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي التي “تخترق حياتنا اليومية من دون أن تثير الاهتمام المباشر لا بالسياسة ولا بالأيديولوجيا”، وهذا ما يجعلها بنظره “تعيش في مأمن من النضال السياسي وفي حمى من نقد الايديولوجي”، وقيمتها ومتعتها عند الكاتب والقارىء أن “يتصيدها في أتفه تجلياتها ويضبطها قبل ان تصوغ نفسها في مفاهيم مجردة واشكال راقية رفيعة كي يتعقب ما ليس يوميا في الحياة اليومية”، أو ما كان ليس يوميا في حياتنا الماضية.

مهمة شاقة وطموحة، فليكن، ما دام هناك أمام “مناطق نت.. مرّة جديدة”.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى