رياض شرارة ابن مشغرة الذي إحتل الهواء والقلوب
بكلمة “تقبريني” دخل رياض شرارة بيوت اللبنانيّين، كما قلوبهم. يطلقها شمالًا ويمينًا، مصحوبة بقبلاته الطريفة التي يوزّعها على المتباريات في حلقاته التلفزيونيّة والإذاعيّة، وفي الحفلات التي كان يقدّمها صحبة فنّانين كبار.
لا أحد يصدّق أنّ ثلاثين عامًا قد مرّت على رحيل “لطيف لبنان”، كما جرّب أنّ يطلق عليه فؤاد حمدان، مدير الإذاعة اللبنانيّة، لكنّ رياض لم يكن مرحّبًا بأن يحمل لقبًا غير اسمه، علمًا أنّ حمدان كان قد أصدر تعميمًا على المذيعين والمعدّين، بأن يقرنوا اسم شرارة بـ”لطيف لبنان”.
من ماكينات الخياطة إلى الإذاعة
في العام 1940 ولد رياض شرارة في بلدة مشغرة، في البقاع الغربيّ، الناحية التي تحمل عبقًا جنوبيًّا، حتّى في اللكنة، إذ يقول شرارة في مقابلة تلفزيونية: “نحنا بمشغرة منقول “أني”، مش “أنا”. في تلك البلدة عاش رياض حتّى آخر سنيّ طفولته، قبل أن تتعدّد الأماكن التي سكنها، كما المدارس، وبعضها داخليّ.
لا أحد يصدّق أنّ ثلاثين عامًا قد مرّت على رحيل “لطيف لبنان”، كما جرّب أنّ يطلق عليه فؤاد حمدان، مدير الإذاعة اللبنانيّة، لكنّ رياض لم يكن مرحّبًا بأن يحمل لقبًا غير اسمه.
في فترة مراهقته اشتغل شرارة فنّيّ كهرباء، ومصلّح ماكينات خياطة، وخطّاط آرمات (لافتات)، ومدرّسًا خصوصيًّا، بينما كانت قفزته نحو عالم الميكروفون بنصيحة من صديق التقاه في مقهى “اللاروندا” في ساحة البرج، مركز العاصمة بيروت آنذاك، تحديدًا في العام 1962، وكان في عمر السابعة عشرة، حيث كانت الإذاعة تبحث عن مواهب لتقديم البرامج، فأراد تجريب حظّه قاصدًا مبنى الإذاعة، فيخضع لامتحان، ثمّ يستقبله محمد كريم، رئيس دائرة البرامج.
في زمن قصير تمّ الاتفاق على برنامجه الأوّل الذي حمل اسم “صفر أو عشرين”، الذي دام سنوات عديدة، حاصدًا الإعجاب، لتتوالى أعماله، المرتكزة على المعلومات والإتصالات والربح، حتّى صار شرارة يتلقّى من الرسائل أسبوعيًا ما يوازي “كيس جنفيص”، بحسب توصيفه.
رياض شرارة بلا منازع
عمل شرارة كصحافيّ في مؤسّسات إعلاميّة كبيرة، أبرزها مجلّة “الحوادث”، مزاملًا شفيق الحوت، وغادة السمّان، ومنح الصلح، وفي التلفزيون قدّم شرارة نشرات الأخبار (إلى جانب عادل مالك، وعرفات حجازي، وجان صليبا) ثمّ قرّر ترك هذا النوع من الإطلالات الجادّة أكثر من اللازم، مقارنة مع أسلوبه المرح.
قدّم شرارة برامج كثيرة استضاف فيها كبار الفنّانين، والشخصيّات المعروفة، ليتزامل مع نجيب حنكش في تلفزيون لبنان، ما يقارب أربع سنوات، إذ كانت الشاشة تقدّم برنامجين لهما أسبوعيًّا، ليتربّع على عرش الصوت والصورة، حتّى نهاية عمره القصير، من دون منافسة من أحد، مالئًا الهواء التلفزيونيّ، بـ2500 ساعة، والإذاعي بـ27 ألف ساعة.
يبقى تقديم شرارة برنامج “الأوّل على إل بي سي” الذي بدأ عرضه في العام 1991 الأكثر شهرة، حيث أحدث حينها نجاحًا منقطع النظير. كان البرنامج يُعرض كلّ أحد مباشرة على الهواء، ويجول في المناطق اللبنانيّة، كان نجمه آنذاك من دون منازع رياض شرارة.
أعلى مستويات المهنيّة
كان شرارة يشتغل يوميًّا، وعلى الهواء، معدًّا يوميًّا لثلاثين سؤالًا، مستندًا إلى أرشيفه الخاص، المبنيّ على الموسوعات والمجلّدات العربية والعالميّة، قبيل عصر الانترنت، فكان هو بذاته “ويكيبيديا” مصغّرة، بل وأكثر دقّة، كونه متحرٍّ منهجيًّا عن منابع المعلومات، هو المشترك سنويًّا بعشرات الإصدارات الأجنبيّة، خصوصًا تلك التي تقدّم الطرائف والكاريكاتور ليتسلّح بكامل عدّته.
هو الذي بلغ أقصى مستويات المهنيّة، بتسجيل صوته لبرنامج “الحصن”، وهو برنامج مسابقات يابانيّ، وصل إلى لبنان دون أيّ ترجمة أو إيضاحات، فما كان من رياض شرارة إلّا أن يجلس في الأستديو قبالة تلك الحلقات، ويروح يسجّل صوته بالعربيّة الفصحى بشكل متواصل ودون أخطاء، حتّى صار ينهي خمس حلقات في اليوم الواحد.
إنجيل شرارة 1979
مشاريع كثيرة أطلقها ابن مشغرة، بالموازاة مع عمله كمقدّم برامج، مثل إصداره مجلّتين، إحداهما مع الإعلاميّ جان كلود بولس، تحت اسم “تليسينما”، بنموذجين كلّ شهر، عربيّة وفرنسيّة، ولم تدم التجربة أكثر من سنة، حيث تكفّلت الحرب باغلاقها، بعد ان مُسِحَت البناية التي يعملون فيها في منطقة السوديكو في بيروت، إذ أصبحت خطّ تماس بين البيروتين “الشرقيّة” و”الغربيّة”.
أمّا المجلة الثانية فكانت سياحيّة اسمها “الجوّال”، وهدفها إرشاد السائح إلى أبرز الأماكن والمطاعم، والفنادق، مع التسهيلات التي يحتاجها كخدمات وتسوّق وأرقام هواتف وعناوين متنوّعة. وهذه كذلك حصدتها المدافع، على الرغم من نجاح المجلتين لناحية الإعلانات ونسب البيع.
مشاريع كثيرة أطلقها ابن مشغرة، بالموازاة مع عمله كمقدّم برامج، مثل إصداره مجلّتين، إحداهما مع الإعلاميّ جان كلود بولس، تحت اسم “تليسينما”، بنموذجين كلّ شهر، عربيّة وفرنسيّة.
يُذكر أنّه المذيع الوحيد الذي حافظ على وطنيّته، من دون انحياز إللاى أيّ من الأطراف المتقاتلة، ليقول: “تعرّضت لكثير من الضغوطات، حتّى أكون طرفًا”، ويضيف: “أنا الصوت الوحيد اللي ما نشّز بالحرب”. على العكس تمامًا، أصدر شرارة وصديقه وديع سعادة كتابًا أسمياه “إنجيل 1979″، فيه وصايا وطنيّة، وإنسانيّة، إذ اعتبرا الأمر احتجاجًا أبيض على عبثيّة القتل والدمار.
على الرغم من نفيه الدائم أنّه شاعر، أصدر شرارة ثلاثة أشرطة كاسيت بصوته، تتضمّن بوحًا شعريًّا، وجدانيًّا، لاقت قبولًا لافتًا في الثمانينيّات، هي: “السيّدة حبيبتي” و”عاشق بالولادة” و”عاشق حتّى الشهادة”. وقد عمد بعض المقرصنين إلى ااستنساخ العديد منها، بغية بيعها في السوق السوداء، كما قام بعض الباعة بمزج أشرطته بأغنيات فيروز، وهاني شاكر، وعبد الحليم حافظ.
“أنا وعيلتي”
فضلًا عن طريقته الأنيقة في تقديم سيرته، إلّا أنّ شرارة اعترف في مقابلة صحفيّة بأنّه كتب عديدًا من رسائل الدكتوراه، لقاء بدلات مادّيّة، وبالطبع صدرت بأسماء “أصحابها” ممّن ناقشوها مع اللجان، لينالوا حرف الدال ومذيّلًا بنقطة، بينما كان رياض يبتسم في سرّه، هو الذي ردّد مراتومرّات أنّ مهنته أتاحت له العيش الكريم، لكن ليس إلى درجة العيش ببحبوحة، ولذلك كانت له أدوار مهنيّة ثانية، كعمله مستشارًا للأخوين رحباني، إذ رافقهم للسبب عينه في سفراتهم لتقديم المسرحيّات والحفلات الكبرى.
يذكر أنّه طرق باب التمثيل في مسلسل “ناطورة الحارة” في العام 1975، مع النجم إحسان صادق، وكاد أن يمثّل في فيلم مصريّ عن حياة سيد درويش.
في عمر الثالثة والعشرين، تزوج رياض من رينيه الدبس، إحدى المتباريات في برنامجه، ليكون الحفل ليلة رأس السنة “هيك ما بنسى عيد زواجي، وما بضطرّ إعمل احتفالين”، يقول رياض، الذي أنجب هادي (الموزّع الموسيقي) وهنادي، ونادين، وغدي، ليتشارك الجميع في برنامج “أنا وعيلتي”، المبني على مشاركة العائلة في برنامج أسبوعيّ تفاعليّ، فيه دردشات ومسابقات.
يعترف أبو هادي، بأنّه شرقيّ في نظامه العائليّ، من دون أن يكون متسلّطًا. كما يؤكّد أنّه ضد وجود الخادمات في المنازل، فأهل البيت قادرون على إنجاز تلك الأعمال. قدَّس رياض الحياة العائليّة، ليصرّح بأنّه لم يدخل ماخورًا في حياته.
المسكون بالخوف!
يعترف شرارة أنّه كان كثير الخوف من ناحيتي الأمن والصحّة، ولا ينافسه على لقب “كبير الخائفين” سوى صديقه الياس الرحباني، فكانا يتبادلان المعلومات عن آخر الأوضاع، كما الأدوية، والاكتشافات الطبّيّة. وكان مواظبًا على المشي كيلومترات عديدة يوميًّا، ليكون موت شرارة في عمر الرابعة والخمسين، نكتة سمجة، كونه رحل في 24 أيلول (سبتمبر) سنة 1994، نتيجة خطأ طبّيّ، تمثّل بسوء تشخيص أزماته القلبيّة المتتالية، التي قرأها الطبيب مجرّد عوارض “ديسك”.
هكذا رحل شرارة “بالغلط”، في بلد احترف “مسامحة الضرورة”، و”العفو العام”. رياض الذكيّ، الذي قال ذات مرّة: “مهما كنت مشهور، كام سنة والناس رح ينسوك”، كما كرّر جملة عاصي الرحباني: “بس يموت الواحد، بيلبسولو تيابو، وبياكلو بصحنو”.
غادرنا رياض، سفير السعادة، بعدما حفر على باب بيته: “اجعل إنسانًا واحدًا سعيدًا كلّ يوم، حتّى لو كنت أنت هذا الشخص”.