مقاهي بعلبك القديمة بعضها طواه الزمن وآخر غادره رواده

قد يكون من المناسب الحديث، بداية، ولو في شكل مختصر، عن تاريخ المقاهي في شكل عام، مع الأخذ في الاعتبار أنّ العاصمة الفرنسيّة كانت السبّاقة في هذا المجال، وما زالت حتّى يومنا الحاضر. فمنذ القرن السابع عشر تمّ افتتاح بعض المقاهي المستوحاة من الطراز الشرقيّ في باريس، لكنّها لم تحقّق نجاحًا يُذكر، أو كما كان متوقّعًا. فقد كانت تلك الأماكن قذرة، ولم يكن الشراب الذي تقدّمه ذا نوعيّة جيّدة، بل كان سيّئًا.

يمكن اعتبار Le Procope أوّل مقهى باريسي يقدّم المثلّجات، وقدّ تمّ افتتاحه في العام 1686. علمًا أنّ أوّل مقهى في فرنسا كان قد ظهر في مدينة مرسيليا بالقرب من “لا لوج”، العام 1672، أيّ قبل 14 عامًا من افتتاح بروكوب في باريس. أقام هذا المقهى وافد أرمنيّ اسمه بّاسكالي، وهو مستورد للبن، ومن ثم استقرّ بعد ذلك في العاصمة باريس ليبيع حبوب القهوة في معرض سان جيرمان. أمّا في نهاية القرن الثامن عشر، فقد قُدّر عدد المقاهي بنحو 3 آلاف مقهى، انتشرت في جميع أنحاء فرنسا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تقاليد المقاهي والحانات الفرنسيّة كانت قد ارتبطت بالثقافة الشعبيّة، التي كان مرحبًّا بها، وجرى تسليط الضوء عليها، نظرًا لعلاقتها بتاريخ البلد السياسيّ. لقد كانت طاولات المقاهي والحانات الصغيرة أشبه ببرلمان الشعب، كما ذكر الكاتب أونوريه دي بلزاك، وهي قد شكّلت بالفعل حلقة عرضيّة وحّدت معظم الفئات الاجتماعيّة في لحظة الاسترخاء والعيش المشترك نفسها.

يُضاف إلى ذلك أنّ المقاهي كانت مكانًا للحياة والإبداع، وشهدت أرجاؤها نقاشات على المستويات كافّة. إلى ذلك، فقد ولدت فيها، إلى حدّ ما، أعظم الحركات الأدبيّة والثقافيّة والفنّيّة الأوروبّيّة، وتطوّرت الحركات السياسيّة الكبرى وأنواع المقاومة والأفكار.

مقاهٍ للتسلية وحرق الوقت

بعيدًا من الأجواء الباريسيّة، المنتسبة إلى عالم آخر بعيد منّا من نواح عديدة، فمن الناحية الشخصيّة أردنا القول إنّنا، في صغرنا، لم نكن من روّاد المقاهي في طبيعة الحال، إذ لم تكن أعمارنا، أنا ومجموعة من رفاق سنّ المراهقة، تتناسب مع ارتياد تلك الأمكنة، بالرغم من رغبتنا في الاستكشاف، وفضولنا لمعرفة ما يدور داخلها. على أنّ مرورنا قرب تلك المقاهي القديمة، التي وَجدت لها مكانًا في مدينة بعلبك، وحينما كانت لا تزال على قيد الحياة، كان شبعًا كافيًا، أحيانًا، من أجل تكوين بعض الصور التي ما زالت راسخة في ذاكرتنا، بالرغم من ضبابيتها.

هذا الأمر يتعلّق بعدد من المقاهي التي اختفت مع الأيام، ولم يبقَ منها سوى عمارات تغيّرت وظائفها مع تطوّر الحياة العصريّة. هذا التطوّر أصاب المقاهي في شكل عام، فزبائن هذه الأيام يختلفون عن زبائن الأمس، أكان من حيث الاهتمامات، أم من حيث تعدّد وسائل التسلية.

المقاهي القديمة في بعلبك اختفت مع الأيام، ولم يبقَ منها سوى عمارات تغيّرت وظائفها مع تطوّر الحياة العصريّة. هذا التطوّر أصاب المقاهي في شكل عام، فزبائن هذه الأيام يختلفون عن زبائن الأمس، أكان من حيث الاهتمامات، أم من حيث تعدّد وسائل التسلية.

وإذا كانت مقاهي العاصمة بيروت، في ستينيّات القرن الماضي، قد استلهمت الكثير من أجواء قريناتها الباريسيّة، فإنّه من النافل القول إنّ تقاليد المقاهي في مدينة بعلبك لم تكن على ذاك المستوى في العلاقة مع الأمور الثقافيّة السائدة في العاصمة، إلاّ على نحو محدود. فمقاهينا البعلبكيّة، وخصوصًا في تلك الفترة العائدة إلى منتصف القرن الماضي، مثّلت مكانًا للتسلية و”حرق الوقت”، علمًا أنّها لعبت دورًا ما في إقامة نوع من العلاقات الاجتماعيّة بين روّادها.

أمّا “النقاشات” التي دارت ضمنها فلم تتعدَّ الأحاديث العاديّة، والتطرّق السطحيّ إلى الأوضاع السياسيّة، وتناقل أخبار سكّان البلدة، والنميمة التي ما فتئت تشكّل جزءًا “ضروريًّا” من الموضوعات السائدة في المقاهي في شكل عام.

مقهى طه في بعلبك

وبالرغم من أنّ الحديث يدور، هنا، حول أمكنة زائلة، فقد شئنا التطرّق، بداية، إلى المقهى الوحيد الذي ما زال قائمًا حتّى اللحظة: “مقهى طه”، كما درجت تسميته، وهو أحد تلك المقاهي الواقعة في وسط المدينة، على بعد أمتار قليلة من هياكل بعلبك الرومانيّة، من دون أن يكون مشرفًا عليها.

مقهى “طه” في الهواء الطلق

وذكْرُ هذا المقهى “الحيّ” يعود إلى أن أجواءه الحالية لا شأن لها بسابقاتها. يحتلّ المقهى قطعة أرض منخفضة نسبيًّا عن رصيف شارع عبد الحليم الحجّار، أحد شوارع بعلبك الرئيسة، وذلك قبل بضعة أمتار من بلوغ تقاطع المدينة الرئيس.

كان روّاد المقهى الذي تأسس في أوائل الخمسينيات، كما المقاهي الأخرى، رجال تعدّت أعمارهم سنّ الشباب، يرتاحون على الكراسي المصنوعة من القصب، وُحدانًا أو زُرافات، وكان من النادر أن تجد أحدهم جالسًا من دون أرغيلة (نرجيلة) يتمسّك بـ”نربيشها” بثقة ودعة، وينفث من فمه دخانًا خفيفًا، ونظراته ترقب جسمًا غير مرئي. هذه الكمّيّة من الدخان تعود قلّتها لكون “نفس” الأرغيلة كان يقتصر حينذاك على التنباك العجمي، الذي لا تصدر عنه كثافة دخانيّة كالتي تصدر في الزمن الحالي عن التنباك المعسّل وأمثاله، إذ تلفظها أفواه الشباب، ممّن يعتقدون، كما نخمّن، أنّ هذا الدخان دليل على جودة ما.

في ذلك الزمن، الذي صار بعيدًا، كانت طقوس معيّنة تحكم تدخين الأرغيلة، بدءًا من ضرورة توافر السكون النسبيّ في المكان، مرورًا بكأس الشاي الثقيل، الموضوع على طاولة معدنيّة ذات صفحة صغيرة مستديرة لا تتّسع لخدمة أكثر من زبون واحد، وصولًا إلى عدم القبول بأنواع الفحم الرديء، تبعًا لخبرة ومزاج كانا قد تكرّسا مع مرور الوقت.

يلعبون الورق في مقهى طه في العام 1975

وبالرغم من وقوع مقهى طه في مركز المدينة، إلّا أنه لم تكن هناك عوامل كثيرة من شأنها أن تعكّر صفو المكان. إذ كانت المدينة، حتّى العقد الثامن من القرن المنصرم، صغيرة نسبيًّا، كما لم تكن أرتال السيّارات القليلة التي تجوب المكان تصدر ذاك الضجيج الهائل الذي يلفّ المكان في الوقت الحالي.

لكنّ الضجيج الآخر، الداخليّ والمختلف، فقد كان مصدره، أحيانًا، تردُّد أصوات لاعبي الورق، ممّن لم تحتمل أعصابهم خطوة ناقصة من شريك، أو بسبب “التزريك” للخصم في حال خسارته، يضاف إلى ذلك قرقعة حجارة لعبة الطاولة أو الدومينو. لكنّ هذا الضجيج ضاع، عادة، في الهواء الطلق، ليتحوّل إلى ما يشبه الموسيقى غير الملتزمة بنوتات مكتوبة.

مقهى الزين

على بعد خطوات من مقهى طه، وعلى زاوية التقاطع الرئيسيّ في المدينة، قام مقهى الزين في منتصف الخمسينيّات واستمرّ حتّى أواخر السّبعينيات. المكان استراتيجيّ في خصائصه، لوقوعه على بعد عشرات الأمتار من المنطقة الأثريّة، وبحكم واجهته المطلّة على التقاطع لجهة الشرق.

لم تختلف نوعيّة الزبائن عمّا تم ذكره في مقهى طه، وقد يُضاف إليهم أفراد آخرون انتظروا كي تمتلىء سيارة أجرة ستقلّهم إلى العاصمة بيروت، وذلك لكون مقهى الزين لا يقع إلاّ على بعد خطوات من “كاراج” المدينة، الواقع في الجهة المقابلة. وكما هو معلوم، فإنّ سيارات الأجرة، الأميركيّة الفارهة، لم تكن لتقلّع من الكاراج ما لم تصبح ممتلئة، ولا تعتمد على التقاط المسافرين عن الطرقات، كما هو شأن حافلات الڤان في يومنا الحاضر.

الزاوية التي قام فيها مقهى الزين

من ناحية أخرى، كان اعتمار الطرابيش أمرًا عاديًّا لدى زبائن المقهى، وعلى رأسهم صاحبه أحمد الزين، الجالس دائمًا إلى طاولة في صدر المقهى بجلال ملحوظ.

مقهى “خبيني” في قبو قديم

لا ندري إذا كان ممكنًا أن نطلق صفة “مقهى” على ذاك المكان الذي عُرف باسم “قهوة خبّيني”. يُستدل من التسمية على إمكان الاختباء عن نظرات الناس، ولو في شكل مجازيّ، فالكلّ يعرف أين يقع المقهى الأشبه بقبو، نظرًا لقيامه في الطبقة السفلى من مبنى قديم، وذلك في أوائل الستينيات حتّى أواخر الثمانينيات حيث أقفل المقهى أبوابه. لكن الداخل كان رحبًا ومنظّمًا، مع عناية واضحة بالديكور، الذي اعتُبر لائقًا في تلك الحقبة. أضف إلى ذلك، أنّ المقهى كان من أولى المقاهي في المدينة التي تضمّنت جهاز تلفزيون في مكان عام.

إنقسم المكان إلى قاعة كبيرة اتّسعت إلى عدّة طاولات، وقاعة أخرى أصغر منها، إضافة إلى زاوية هي عبارة عن مكتب لصاحب المقهى. (لن نعمد، هنا، إلى تسمية الأشخاص، بدءًا من صاحب المقهى، مرورًا بالزبائن، وصولًا إلى بعض العاملين فيه، وذلك احترامًا للخصوصيّة، ونظرًا للطبيعة الوظيفيّة للمكان).

وبما أنّ الكلام يدور على الناحية الوظيفيّة، فينبغي القول إن مقهى “خبّيني” كان مخصّصًا للعب الميسر، وكان يستقبل زبائنه من مختلف الطبقات الاجتماعيّة، لكنّ جلّهم كان من الحرفيّين وأصحاب المصالح في المدينة. هؤلاء الزبائن كانوا في معظمهم من الذوّيقة في ما يتعلّق بأذواقهم الموسيقيّة، إذ كانوا يؤثرون الاستماع إلى الأسماء الكبيرة في عالم الغناء أمثال محمّد عبد الوهاب وأمّ كلثوم وسيّد مكاوي، دون سواهم من مغنّين آخرين، ممّن تزدهر أغنياتهم لفترة من الوقت، ثمّ تذوب مع مرور الزمن.

مدخل المقهى الذي كان يحمل اسم “خبيني”
ثلاثون ساعة للمقامرة

تُضاف إلى ذلك صفات شخصيّة أخرى تمتّع بها روّاد المقهى كالكرم على سبيل المثال، لذا فقد سخروا عادة ممن يُظهر بعض علامات البخل والشحّ. بيد أنّ بعض هؤلاء كانوا من “المداومين”، في حين أمّ المكان زبائن موسميّون، وخصوصًا في بعض المناسبات، كالأعياد والعطل الرسميّة وسواها، ممّن شاؤوا اختبار حظوظهم كما يحدث عادة ليلة رأس السنة. ولا شكّ في أنّ الزبائن المداومين كانوا من المدمنين على اللعبة، وهي لطالما شكّل الإدمان أحد آثارها المدمّرة، وموبقاتها التي لم يسلم منها كثيرون.

تمثّلت عواقب هذا الإدمان، الذي يصعب الشفاء منه، في غياب بعض اللاعبين عن بيوتهم أيّامًا بكاملها، وتبديد الأموال المخصّصة لحاجيات المنزل. وكم من زوجة أتت إلى المقهى ساعية إلى اقتلاع زوجها من المكان وسوقه إلى المنزل، من دون طائل، إذ كان سيعود حتمًا لممارسة شغفه في اليوم التالي.

أفادنا أحد الأصدقاء، الذي عمل في المقهى حينما كان فتى يافعًا، أنّ بعض الألعاب استمرّت أيامًا بكاملها مع لياليها، وكان اللاعبون خلالها يطلبون منه شراء الطعام لهم من دون أن يغادروا طاولاتهم، كما هو حال “الديليفري” في هذه الأيام.

أخبرنا صديقنا، أيضًا، أنّ أحد اللاعبين المدعو أبو علي ط. جلس إلى طاولة القمار ما يقارب 30 ساعة متواصلة، وحين شاء النهوض لم يقوَ على ذلك، ليتبيّن أنّه أصيب بجلطة في قدمه، أو في كلتي قدميه، ولم يُشفَ منها تمامًا خلال ما تبقّى له من حياة. وأبو علي هذا تحوّل، بعد خسارة الكثير من أمواله، إلى إنسان هامشيّ من هواة تدخين الحشيش في شكل دائم.

كما أنّ لاعبًا آخر، وكان شابًّا سانده الحظ في أحيان كثيرة، بحيث شلّح إحدى المرّات جميع اللاعبين أموالهم في لعبة “البكرة” في ليلة من الليالي، فكان أن جمع مبلغًا يدنو من 17 ألف ليرة، وهو عبارة عن مبلغ كبير، يكفي لبناء منزل صغير في ذلك الحين. إثر ذلك، استقلّ صاحبنا، في منتصف الليل، سيارة تاكسي أوصلته إلى كازينو لبنان، حيث خسر المبلغ بكامله، وعاد صباحًا إلى مقهى “خبّيني” وهو يتضوّر جوعًا، فطلب من صاحب المكان أن يُطعمه شيئًا، إذ لم يبقَ لديه حتّى بضع ليرات كي يشتري ما يسدّ رمقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى