“سالكة وآمنة” ابن صور شريف الأخوي و49 عامًا على الحرب الأهلية
كانت البصمة الإعلاميّة والإنسانيّة لمدرّس اللغة العربيّة، الإعلاميّ والإذاعيّ شريف نور الدين الأخويّ (1928- 1987)، الوجه الآخر للحرب الأهليّة اللبنانيّة التي اندلعت في 13 نيسان 1975. ابن مدينة صور الجنوبيّة، يستريح في ترابها عند موج البحر، في محلّة النبي إسماعيل.
أعطى الأخويّ، وهو ابن أحد أوائل المدرّسين في صور، مدينته ولبنان والعالم صورة ناصعة، ستبقى محفورة بذاكرة أجيال واكبت مسيرته الإذاعيّة، خصوصًا في أتون الحرب الأهليّة، ولا يزال يتردّد صداها كمحطّة ومدرسة ميزته إلى جانب شريكة حياته يمن زيتون، ابنة بلدة كفرتبنيت في منطقة النبطية، إذ شكّلا معًّا ثنائيًّا لافتًا.
لم يترك شريف الأخوي ثروة ماليّة أو مؤسّسة إعلاميّة كميراث لعائلته، بل كلّ ما أبقاه بعد رحيله في أثناء خضوعه لعمليّة جراحيّة في مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، قبل رحيل شريكته في العام 2015، محبّة جمهور واسع كانت بمثابة حزب بأكمله، ينبهر بخطابات رئيسه على الهواء مباشرة ويسير وراء تطلّعاته للبنان السلام والمحبّة والتسامح ونبذ الحرب والقتل والفتنة .
سالكة.. آمنة
إنّ أكثر ما هو مطبوع في ذاكرة جيل الحرب الأهلية التي امتدت 15 عامًا، مخلفة المآسي والويلات والخراب، كانت عبارات الإذاعي شريف الأخوي “سالكة.. وآمنة”، التي كان يطلقها مباشرة على الهواء من أحد مراكز قوى الأمن الداخليّ في بيروت، ومن على محاور القتال بين اللبنانيّين، لتصل إلى أسماع الناس عبر أثير إذاعة لبنان الرسميّة، التي تأسّست سنة 1938 باسم “راديو الشرق”، وكانت بإشراف سلطات الانتداب الفرنسي قبل أن تتسلّمها الدولة اللبنانيّة في العام 1946 وتطلق عليها تسمية “إذاعة لبنان”.
شكّل شريف الأخويّ في أثناء الحرب الأهلية، حالة فريدة من نوعها شغلت كبريات الصحف العالميّة والكتّاب والنقّاد، ممّن تناولوا “ظاهرة” الأخوي المميّزة والمرتبطة مباشرة بهموم أبناء بلده والحفاظ على حياتهم من رصاص القنص والاشتباكات على محاور القتال بين منطقتين اصطلح على تسميتهما بيروت الشرقيّة وبيروت الغربيّة، ثمّ توحدتا جغرافيًّا بعد اتفاق الطائف إذ حالت المعابر بينهما مدّة خمسة عشر عامًا، وقد راح ضحيتها أكثر من 120 ألفًا من اللبنانيين وآلاف المعوّقين والمفقودين، إلى دمار ما بعده دمار، وقد نجا داعية الأمن والسلام شريف الأخوي أكثر من مرة من محاولة اغتيال أو خطف.
بجرأة كبيرة تناول شريف نور الدين الأخويّ، الحرب الأهليّة اللبنانيّة ونحن في ذكرى اندلاعها الـ49، والتي يحييها اللبنانيّون تحت شعار “تنذكر وما تنعاد”، في ظلّ أشد المعارك العسكريّة والسياسيّة بين المتحاربين، التي شكّلت أرشيفه الغنيّ والمتنوّع، إذ كانت كلماته عبر المذياع المتنقّل تضع الإصبع على الجرح، وكانت مفردات أجواء الطمأنينة تتسلّل كالنسيم منه إلى قلوب اللبنانيّين، في مواجهة الرصاص والقنص الذي كان يعطّل حركتهم وانتقالهم بين المعابر والمناطق.
طبعت جملة لا تتعدّى كلمتين “سالكة وآمنة”، أو “سلكت وأمنت”، في ذاكرة كثيرين ممّن عايشوا تلك الحرب وقد شكّلتا عنوان برنامج أطلقه الأخوي مع بدايات اندلاع الحرب. وذلك في إشارة منه الى وقف عمليّات القنص والرصاص، حيث كان يستغلّ المواطنون هذه الفرصة للتنقّل بين معبري المتحف- البريبر وبشارة الخوري وسواهما لتفقّد أعزاء وأقارب أو لتأمين حاجياتهم ومستلزمات اختبائهم في الملاجئ والغرف الآمنة.
إذاعة بين المحاور
تعدّى دور شريف الأخوي الحديث من داخل استديوهات الإذاعة اللبنانيّة، ليصل به الأمر الى التنقّل بين محاور القتال في ملّالات قوى الأمن الداخليّ، يرشد الناس المذعورين والقلقين إلى المعابر المفتوحة التي توصلهم الى منازلهم في ساعات توقّف العمليّات العسكريّة، وصولًا إلى تحويل غرفة الاتصالات الكاملة في المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخليّ إلى غرفة عمليّات تنقل وقائع الأوضاع الأمنيّة المتفجّرة على مدى 24 ساعة، ومباشرة على الهواء.
تعدّى دور شريف الأخوي الحديث من داخل استديوهات الإذاعة اللبنانيّة، ليصل به الأمر الى التنقّل بين محاور القتال في ملّالات قوى الأمن الداخليّ، يرشد الناس المذعورين والقلقين إلى المعابر المفتوحة
قبل اندلاع الحرب المشؤومة، عُرف شريف الأخوي الذي رافقته زوجته يمن زيتون الأخوي، في مسيرته الإعلاميّة في الإذاعة اللبنانيّة بتقديم برنامج “نزهة”، كان يتابع من خلاله حركة السياحة المناطقيّة على اختلافها في جميع الأراضي اللبنانيّة، متزامنًا مع برنامج صباحيّ حول أوضاع الطرق والسير ومخالفاته، بالتعاون مع قوى الأمن الداخليّ.
جذبت ظاهرة الأخويّ عديدًا من المراسلين الصحافيّين من اليابان والصين وبريطانيا وفرنسا وأميركا وسواها. واحتلّ أغلفة بعض المجلّات العالميّة، وتمّ إنتاج أفلام وثائقيّة عنه.
“تكفينا سيرته الحسنة”
أفضل ما تركه شريف الأخوي، هو سمعته الطيّبة ومناقبيّته الإنسانيّة ونظافة كفّه، فنال تكريمًا ووسام الاستحقاق الوطنيّ بعد وفاته.
تؤكّد ابنته زينة التي تعشق العمل الإذاعيّ وتقدم برامج باللغات الاجنبيّة على أثير إذاعة لبنان أنّ والدها، “كان بحجم وطن، لم يخضع للترغيب والترهيب، وواصل مسيرته الإعلاميّة بكلّ احترافيّة ومسؤوليّة وطنيّة، على رغم تعرّضه لمحاولات قتل وعملية خطف”.
وتضيف الأخويّ لـ”مناطق نت”: “إنّ والدي ورث كثيرًا عن جدّي نور الدين، وقد عاش أولى مراحل شبابه في مسقط رأسه ومارس التدريس في مدرسة صور الرسميّة، في الخمسينيّات، ثم انتقل بعدها إلى بيروت المنفتحة على ثقافات متعدّدة ومتنوّعة ليمارس فيها مهنة التعليم في مدرسة “عزيزة طيّارة للبنات” مدرّسًا للغة العربية، ثم انتقل بعدها إلى ممارسة مهنة الإعلام في إذاعة الشرق الأدنى، وبعدها إلى الإذاعة اللبنانيّة والتي كان أحد مؤسّسيها ومداميكها، فتميّز بأفكاره وبرامجه، وهو أوّل من كان يذيع نتائج الامتحانات الرسميّة على الهواء، إلى جانب برنامج حول الكلمات المتقاطعة، يُبث أيضًا على الهواء” .
برنامج “نُزهة”
تتوقّف الأخويّ الابنة عند برنامج “نزهة” الذي كان “بمثابة بّانوراما للسياحة المناطقيّة والتاريخيّة على مختلف الأراضي اللبنانيّة، مضفيًا أجواء من السعادة في البلدات التي كان يزورها لإعداد حلقاته، كانت بداية البرنامج في مراحله الأولى من إعداده وتقديم محمّد وثريّا نور الدين، ولاحقًا تفرّغ له مباشرة، مع زوجته يمن التي أحبها بعدما تعرّف إليها في أحد مهرجانات الجنوب.”
وتضيف: “صقل شريف الأخوي موهبة زوجته يمن، التي كانت من المعجبين والمتابعين لبرامج زوجها العتيد، فأصبحا بعد ذلك ثنائيًّا إذاعيًّا وأسّسا شركة إنتاج كانت من أولى الشركات التي دخلت إلى دول الخليج العربي” .
وتلفت زينة الأخويّ إلى أعداء لمسيرة والدها ولمواقفه، “للتشويش عليه وعلى مصداقيّته، إذ كان البعض في زمن الحرب، يشعلون المحاور بالرصاص والقصف بعد سماعهم عبارات سلكت وأمنت للنيل من شفافيّته، خصوصًا وأنّه كان يفضح الفساد والفاسدين ولم ينتمِ يومًا إلى أيّ حزب سياسيّ” .
زينة الأخوي: كان هناك أعداء لمسيرة والدي ولمواقفه للتشويش عليه وعلى مصداقيّته، إذ كان البعض في زمن الحرب، يشعلون المحاور بالرصاص والقصف بعد سماعهم عبارات سلكت وأمنت للنيل من شفافيّته
وتشير زينة الأخويّ لـ”مناطق نت”، إلى “أنّ ما سرّع مرض شريف كان احتراق القسم الأكبر من أرشيفه، الذي كان ينقله كطفل من مكان إلى آخر، وذلك إثر سقوط قذيفة على منزل العائلة في محلّة القنطاري في بيروت، ولا ننسى طبعًا غيابه لشهور متقطّعة عن المنزل بسبب ضراوة المعارك، واضطراره للبقاء في مركز المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي”، مؤكّدة بأنّ أكبر تكريم ناله والدها كان محبّة الناس وتعلّقهم به .
“كان صوتًا ناصعًا”
يؤكّد مدير الإذاعة اللبنانيّة الزميل محمّد غريب، “أنّ الأخويّ ترك إرثًا إعلاميًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، وأعطى الإذاعة اللبنانية صورة وصوتًا جميلًا وناصعًا” .
وقال لـ”مناطق نت”: “إنّ الإذاعة اللبنانيّة فيها سبعة استديوهات، وتمّ إطلاق اسم السيدة فيروز على واحد منها، واسم الراحل حليم الرومي على آخر، واسم الراحل نصري شمس الدين على استديو آخر، وفي المراحل القادمة، سيتمّ إطلاق أسماء قامات فنّيّة وإعلاميّة على باقي الاستديوهات، وفي طليعتهم الراحل شريف الأخويّ الذي أغنى الإذاعة اللبنانيّة بالبرامج مع زوجته يمن”.
ويلفت غريب إلى “أن هناك تحدّيات كبيرة تواجه الإذاعة اللبنانيّة نتيجة الوضع الماليّ”. مشددًا على العمل بكل قوّة وإرادة لتطوير البرامج وتحسين الإرسال كي يصل صداها واضحًا الى كلّ لبنان .
البداية من صور
يتوارد في مسقط رأس الأخويّ في صور اسم عائلة الأخويّ، من الوالد إلى الابن، ويؤكّد الطاعنون في العمر أنّ والد شريف، نور الدين الأخوي، كان شاعرًا وأوّل من افتتح مدرسة للتعليم في حارة صور القديمة، حيث تتلمذ على يديه كثير من أبناء المدينة.
وعن نجله الإذاعيّ شريف، يقول محمود الرفاعي “أبو سليمان”: “لقد كنت أحد تلامذة شريف الأخويّ، أستاذ اللغة العربيّة في مطلع الخمسينيّات، وكان مربّيًا صارمًا وجادًّا”.
فيما يؤكّد شريف قرعوني، ابن ابن شقيقة الأخويّ، أنّ جدّته، شقيقة شريف، أطلقت عليه هذا الاسم بعد ولادته، في أعقاب وفاة شريف الأخوي في العام 1987 بفترة وجيزة، وفاءً لذكرى شقيقها وتيمّنًا باسمه الذي ذاع.