سراي بنت جبيل.. تاريخ عريق وحاضر برائحة المياة الآسنة
“اتبع الرائحة إذا كانت وجهتك سراي بنت جبيل الحكومي، رائحة الصرف الصحي طبعاً”، بهذه العبارة يمكن للبلديّة أن تدلّ المواطنين المتّجهين إلى السراي لتخليص معاملاتهم، بدلاً من إتّباع الـ”غوغل مابس” أو الإكثار من السؤال. لسراي بنت جبيل تاريخ عريق، يمتدّ إلى العام 1839 إلا أنّ لا شيء يجمع السّابق بما يحدث اليوم.
لمبنى سراي بنت جبيل باع طويل ودور كبير في مختلف الحروب والأزمات التي مرت على بنت جبيل وجبل عامل تحديدًا. أمّا اليوم لم يعد لهذه السراي أي دور يميّزها، فقد أصبحت وجهة “غير محببة” لتخليص المعاملات وتسيير شؤون المواطنين، فالبناء بحدّ ذاته غير مؤهل إلّا لاستقبال “الجرذان” والحشرات بسبب المياه الآسنة التي تغمر مدخل وموقف السراي، عدا عن النفايات والأوساخ التي تنتشر في محيط المكان، ولا يمكن نسيان “الدرج” الذي تتهاوى حجارته، عدا عن انعدام الصيانة.
تتألف السراي الحكومي لقضاء بنت جبيل (الذي يضم 36 قرية وبلدة) من القائمقامية، فصيلة الدرك، المخفر، البريد، الهاتف، المحكمة المدنية، المحكمة الشرعية الجعفرية، كاتب العدل، مكتب المالية، دائرة النفوس، مركز الإرشاد الزراعي، مكتب الريجي، المكتب العقاري، مكاتب للمخاتير، مركز الإنعاش الاجتماعي، مؤسسة كهرباء لبنان، مكتب مصلحة مياه جبل عامل، مركز طبابة القضاء، الضمان الاجتماعي، جهاز أمن الدولة، سجن بنت جبيل، وغيرها من الدوائر الحكومية المهمة التي هي مقصداً لعشرات المواطنين يوميًّا.
ولأنّ الأهالي أدركوا بعد وعود توالت وزيارات تفقدية دورية و”انتخابية” وجملة “انشالله خير”، أنّه ربما تكون وسائل التواصل الاجتماعي وحدها السبيل لأن ينظر أحد ما إلى السّراي الّذي يشكّل مركزًا مهمًا وشرياناً نادراً للحياة في بنت جبيل، فأثناء محاولة البحث عبر “فايسبوك” عن السراي، نجد صورًا مكرّرة لجملة من المشاهد والمناشدات الّتي لا تتغير مضامينها، بقايا “درج” وسقف مفتوح ومصعد معطل و”برك” مياه آسنة لا تفارق المكان. ربما هو حلم أخير لمن بقي من أهالي بنت جبيل والمنطقة ليحظوا بمركزٍ حكوميٍّ مؤهل لأن يكون وجهة لآلاف الباحثين لتيسير أمورهم وشؤونهم ومعاملاتهم، لا أن يبقى مضرب مثل عن الفساد في التلزيمات والتنفيذ، فحتى السجناء يرفضون السّجن في مكان كهذا.
تاريخ عريق
لسراي بنت جبيل تاريخ يحكي عنها، فكانت وساحتها شاهدتان على حقبة مهمة من تاريخ جبل عامل خصوصاً ولبنان عموماً. في العام 1839 برز الشيخ “حسين السلما” الذي بنى السراي الأولى وجعلها دار إمارة وعُرف بمناصرة المصريين في ذلك الزمن، كما ورث عنه ابنه “تامر بك” الحكم والنهج، وكان الأخير قد استضاف الرحالة الهولندي فان دي فيلد (VAN DE VELDE) في سراي بنت جبيل عام 1858، والّذي ترك رسمًا مهمًا للمدينة لما يقدمه من معلومات عن شكل العمارة في بنت جبيل وما للقلعة (السراي) من أهمية.
تألفت السراي من غرفٍ لإقامة الجند، وأماكن للتخزين وإقامة العمال، ومقر لحاكم المدينة، وقاعة للاستقبالات الكبرى (الديوان) وضمّت بهوًا مفتوحًا على السماء وكان محصّنًا بالغرف المحيطة وبالأسوار والأبراج التي كانت قائمة وقد ظهرت في الرسم. أضفت هذه الأبراج طابعًا دفاعيًّا للسراي، وأظهرت ملامح القوة والسلطة آنذاك، وهذا ما يفسّر قيام “حسين السلمان النصار” ببناء السّراي على شكل قلعة، وكانت شكّلت معقله الأساسي بصفته حاكم المدينة ومنطقة جبل عامل، كما شكّلت رمزًا لقوة جنوده وقدرتهم على حفظ الأمن.
في عام 1936 انتفض أبناء جبل عامل بوجه سلطات الانتداب الفرنسي، فاعتُقل في سراي البلدة كلّ من الحاج علي بيضون، علي بزي (نائب ووزير سابق)، موسى الزين شرارة وأنيس الايراني. دفعت هذه الواقعة بالناس إلى التظاهر أمام سجن السراي، محاولين إخراج المعتقلين، لكنهم فوجئوا بطلقات نارية أدت إلى استشهاد مصطفى العشي، محمد الجمال وعقيل دعبول، وقد تم تحطيم باب السجن بعدها.
بعد معركة المالكية في العام 1948، زار قائد الجيش اللبناني آنذاك فؤاد شهاب مبنى سراي بنت جبيل. كانت السّراي وساحتها مسرحاً للعديد من الأحداث المهمة، ومنها إضراب المعلمين الشهير في السبيعنيات والتظاهرة الطلابيّة-العمالية تنديداً بإطلاق النار على النائب معروف سعد في صيدا عام 1975.
بعد معركة المالكية في العام 1948، زار قائد الجيش اللبناني آنذاك فؤاد شهاب مبنى سراي بنت جبيل. كانت السّراي وساحتها مسرحاً للعديد من الأحداث المهمة، ومنها إضراب المعلمين الشهير في السبيعنيات والتظاهرة الطلابيّة-العمالية تنديداً بإطلاق النار على النائب معروف سعد في صيدا عام 1975.
أما في العام 1974، وبعد الاعتداء الاسرائيلي على بلدة بليدا وسقوط عدد من الشهداء وتدمير بيوت الأهالي، توجه أهالي بلدة بليدا بمظاهرة إحتجاجية إلى وسط بنت جبيل بدعم من قوى اليسار، محمّلين السلطة السياسية مسؤولية التخاذل في مواجهة الاعتداء. نتج عن هذه المظاهرة مواجهة حادّة مع فصيلة درك بنت جبيل المقيمة في مبنى السراي وأدى غضب الاهالي إلى اقتحام المبنى وإحراق جزء من محتواه، وذلك وفق الباحث في تاريخ بنت جبيل “وضاح جمعة”.
هدمت السّراي القديمة في العام 1978 (في زمن الإحتلال)، وسُرقت قناطرها. وقد أعيد تأهيل المبنى الجديد بعد حرب تموز ورُمّم المبنى القديم ليصبح مركزاً للمكتبة العامة في بنت جبيل. أما ما بينهما، فكانت المراكز الحكومية والمحاكم وغيرها من الدوائر مشتتة بين مبانٍ عدة في بنت جبيل، وقد جُمعت لأول مرة في المبنى الحالي.
رائحة المجارير والفساد
تغير موقع مبنى سراي بنت جبيل الحكومي، واختلف الزمان، ولكنّه تبدّل إلى الأسوأ. فعند الدّخول إلى سراي بنت جبيل الحكومي يظهر حجم الفساد بأمّ العين، ويعود السّبب في ذلك إلى التلزيمات المبنية على السمسرة و”مرقلي تمرقلك”. فمبنى افتتح في العام 2010، يبدو وكأنّه مرّ زمن طويل عليه، سقفه مفتوح بعدما تهاوى لأنّه شيّد من البلاستيك ومواد غير متينة، المصاعد معطلة، “الدرج” مكسّر، و”النش” حدث ولا حرج. فضلاً عن المشكلة الأكبر والأبرز وهي مشكلة الصرف الصحي، بحيث يغرق مدخل وموقف ومحيط المبنى معظم أيام السنة بالمياه الآسنة.
منذ أسبوع، أطلق الشاب “علي بزي”، أحد عناصر الدفاع المدني في بنت جبيل والذين يتخذون من المبنى مركزاً لهم، صرخته عبر منشور على “فايسبوك”، يشرح حجم المعاناة التي يرزحون تحتها بسبب حال المبنى عمومًا ومياه الصرف الصحي خصوصاً. وفي حديث مع “مناطق.نت”، أشار بزّي أنّ الرائحة لا تطاق، والمشكلة عمرها سنوات، حيث أنّ الموقف الخاص بالسراي يغرق بمياه الصرف الصحي وهذا لا يؤثر فقط على زائري السراي بل على المجمعات السكنية المحيطة به مما يجعل القاطنين من أطفال وعجز وشبان تحت خطر الأمراض والجراثيم والبكتيريا.
عند الدّخول إلى سراي بنت جبيل الحكومي يظهر حجم الفساد بأمّ العين، ويعود السّبب في ذلك إلى التلزيمات المبنية على السمسرة و”مرقلي تمرقلك”. سقف مفتوح بعدما تهاوى لأنّه شيّد من البلاستيك ومواد غير متينة، المصاعد معطلة، “الدرج” مكسّر، و”النش” حدث ولا حرج
إثر هذه الصرخة، تحرك اتحاد بلديات بنت جبيل بما تيسر، وأقدموا على تفريغ الجورة الصحية، وتنظيف المكان من النفايات. وعن صدى الحل وإنتاجيته، لفت مصدر في الاتحاد لـ “مناطق.نت” أنّ الحل الذي عملوا عليه جزئي لأنّ هذا الموضوع ليس من مسؤوليتهم بل من مسؤولية وزارة الأشغال. وأكّد أنّ ميزانية الاتحاد لا تسمح بأيّ حلول جذرية، مشيراً إلى أنّ أحد الأشخاص ساهم مالياً وتبرع لتفريغ الجورة الصحية، والمبلغ المطلوب شهرياً يتراوح بين 400 و500 دولار.
من جهته، اعتبر قائمقام بنت جبيل “شربل العلم” في حديث لـ “مناطق.نت” أنّ الوضع ليس مأساوياً كما يصوره البعض، مشيراً إلى أنّه أرسل كتب عدة عبر المحافظ لوزارة الأشغال، إلا أنّ لا حلول في الأفق حتى الآن. وأكّد أنّ مسؤولية المبنى من صيانة وتأهيل تقع على الوزارة، وقد كشفت على الجورة الصحية منذ أشهر دون المساهمة حتى الآن في أي خطوة عملية. وعند سؤالنا عن سبب كل هذا الخراب، اعتبر أنّه لم يكن في سدّة المسؤولية حينما شيّد المبنى، مشيراً بشكل غير صريح إلى فساد في التلزيم والتنفيذ.
يقف المختار “وحيد سعد” كرأس حربة في هذا الموضوع منذ سنوات، يصرخ هنا وهناك، ولا من يسمع أو يجيب. وفي حديث لـ “مناطق.نت”، أشار إلى وجود ثلاثة “جور صحيّة” وأنّ الجميع كانوا قطعوا علاقاتهم معه بسبب “فضحه” للموضوع مراراً وتكراراً، من البلدية إلى الاتحاد إلى سائر المعنيين. ويلفت إلى أنّ مشكلة “الجورة الصحية” بدأت منذ العام 2016، ومنذ ذلك الوقت إلى الآن، يرمي كل طرف المسؤولية على الآخر، ويضيف: “حاولنا التواصل مع الجميع، وصولاً إلى الوزارات والوزراء أنفسهم، وكل واحد يقول ما خصني”. ويوكّد سعد أنّ وضع المبنى مذري، في “الديبو” لا يمكن الوقوف بسبب الروائح، الدرج غير مؤهل لا للصعود ولا للنزول، والسجن مليء بالديدان..
يجزم المنطق والعقل معًا أنّ الشعوب تتطور والبلاد تتقدم، إلا أنّ في بلادنا نتحسر على ماضٍ “منيح بس مضى”، ونبكي الحاضر الذي لن يكون بأيدي أمينة إذا ما بقي المنطق السائد نفسه، فالسمسرات والفساد صار نهجاً لا نحيد عنه ولا نعرف سبيلاً سواه. وإذا قررت البحث يوماً على من تقع المسؤولية، ربما ستكون أنت السبب والمسبب والفاعل والمفعول به على حدٍ سواء. ومع الوقت، إذا دعتك الحاجة لزيارة سراي بنت جبيل، ضع “كمامتك” واحسب خطواتك جيداً!