“طش فش جورنال”.. الكاريكاتير العربيّ الساخر بين جيلين
على غلاف الكتاب ثمّة كاريكاتير لرجل يهرول ويمدّ يديه نحو قطعة خبز أو بسكويت تتطاير في الهواء وتهرب بعيدًا عن مناله، على رأسه شماغٌ ثابت كثباتِ هويّته العربيّة، مرتديًا ثيابًا منكمشة، بالية وغير متناسقة.
يعدو الرّجل العربيّ الّذي جسّده رسّام الكاريكاتير الفلسطيني عماد حجاج، وسط مساحةٍ واسعة من اللّون الأزرق السّماوي واختارته شركة “طش فش” ليكون اللّون الطاغي على مجلّة “طش فش جورنال” الصادرة كلّ شهرين منذ العام 2019، وتُوزَّع مجانًا.
بين دفّتيّ طش فش جورنال- العدد 62 الصّادر هذا العام ضمن فعاليّات معرض بيروت الدّولي العربيّ للكتاب، بالشّراكة مع مكتبة أنطوان للنشر والتّوزيع، تعيش شخصيّات كاريكاتيريّة مختلفة بحواراتها المختلفة وبصُورها الساخرة واللاذعة عن الواقع العربيّ والهمّ المُشتَرَك، وهذا ما يمهّد له الرّجل على غلاف المجلّد، إذ يركض بيأسٍ وباستمرار نحو لقمة عيشه المسلوبة، برغم اللّون الأزرق الطاغي على الغلاف، ما يمنح متصفّح الكتاب إحساسًا باختلاط الشّعور بين الحزن الّذي يعتلي وجه الرّجل، وبين الصّفاء والسّخرية المتمثّلة باللّون الأزرق، كأنّ هذا الرّجل غارقٌ في بحرٍ من الهمّ.
“الّذي بين أيديكم هو بين كتاب ومجلَّد، يجمع بين دفّتيه عددًا كبيرًا من نشرة طش فش جورنال كنسخ طبق الأصل للنشرات كما صدرت، ويضيف إليها فواصل من عدّة صفحات محرَّرة خصّيصًا لتعرّف بعدد من الرسّامين البارزين”، يكتب النّاشر معتزّ الصوّاف في مقدّمة الكتاب.
جمعت هذه المجلّة أعمال نحو 15 رسّامًا، تتوزّع بين فئات ثلاث: الكاريكاتير والشّرائط المُصوَّرة وفئة الكلاسيك الّتي تضمّ أعمال كبار الرسّامين العرب التي خلّدها الفنّ والتّاريخ. استطاعت طش فش على مدى سنوات مِن الوصول إلى ما يقارب مائتي رسّام من البلدان العربيّة كافّة. وقد صدرَ من المجلّة حتّى الآن 350 “جورنال” تضمّ أعمال ورسومات فنّانين عرب معظمهم مِن جيل الشّباب، المشحون بما يكفي من الغضب والحماسة والشّجاعة لصناعة كاريكاتيرات ساخرة وجريئة تعبّر عنه وعن كلّ ما يريد اللّسان العربيّ قوله.
الهمّ العربيّ بين جيلين
يحمل جيل الشّباب قنابل متفجّرة من الأفكار والرؤى، وهذا ما يظهر جليًّا في أعمالهم الفنّيّة الّتي تبدو مزدحمة بالغضب المستمرّ من الواقع والمشاكل والأزمات المتوارثة من الأجيال السّابقة. في طش فش جورنال يجتمع جيل الشّباب بالجيل الأكبر وتتلاقى أعمال جيلين يعبّران عن الهموم العربيّة نفسها والأزمات المتتالية الّتي واجهت بلادنا مثل “كورونا” وأزمة الدّولار وغيرها.
يرصد الشّباب الأزمات المُعاصِرة بأساليب ساخرة ومبتكَرة، بعضهم يعبّر بالحوار المكتوب المصاحب للرّسم، ويكتفي بعضهم بالتعبير من خلال الرّسم نفسه. يرسم ناصر الجعفري محفظة وسط البحر مليئة بالماء، مغلّفة بألف ليرة لبنانيّة، وفي وسط المحفظة يقف رجلٌ يحاول أن يفرغ المحفظة من الماء بينما يتدفّق الماء من ثقوبٍ في الليرة اللبنانيّة.
في المقابل، وقبل أكثر من عشرين عامًا رسم فنان الكاريكاتير اللبناني حبيب حدّاد لوحةً تعبّر عن واقع يعيشه جيل الشباب، الّذي يعبّر عنه بطرق مختلفة، هي رسمة لرجل نحيف لكنّ ظهره ضخم ومقوّس وكأنّه مثقلٌ بالهموم، يقف حافيًا، بثيابٍ ممزّقة أمام المرآة الّتي يظهر فيها وجه جورج واشنطن على الدولار الأمريكيّ، وهو يمدّ لسانه بوجه الرّجل.
بين دفّتي “طش فش جورنال” رسومات لا تُحصى لفنّاني كاريكاتير من مختلف البلدان العربيّة، يعبّرون عن هموم مشتركة، فيرسم الفنّان حسن حاكم من السّودان عائلة من أم وأب وثلاثة عشر طفلًا يجلسون في منزل فقير جدرانه متشقّقة، بينما يكتب الأب على الورقة رسالة طويلة لصندوق النقد الدّولي تقول له الأم “وقول لصندوق النّقد الدّولي إنّ الأولاد عايزين ياكلوا”.
في المقابل يرسم فنان الكاريكاتير و”الكوميكس” المصريّ محمد توفيق لوحة ساخرة تحاكي الواقع المصريّ في فصل الشّتاء، فيظهر رجل يرتدي دولابَ سباحة بينما يستعدّ للخروج من البيت، فتقول له زوجته “ترجع لنا بألف سلامة يا حج”.
قبل أكثر من عشرين عامًا رسم فنان الكاريكاتير اللبناني حبيب حدّاد لوحةً تعبّر عن واقع يعيشه جيل الشباب، هي رسمة لرجل نحيف لكنّ ظهره ضخم ومقوّس وكأنّه مثقلٌ بالهموم، يقف حافيًا، بثيابٍ ممزّقة أمام المرآة الّتي يظهر فيها وجه جورج واشنطن على الدولار الأمريكيّ، وهو يمدّ لسانه بوجه الرّجل.
وفي لوحة معبِّرة وموجعة لفنان الكاريكاتير العراقي خضير الحميري تقف امرأة تمثّل “العقوبات على سوريا”، وسط ساحةٍ من ركام المنازل وتحت قدميها دم النّاس والبيوت، وهي تقول عبر الهاتف “اطمئنّوا.. انهارت المباني والبيوت والطريق وآني بعدني ثابتة”.
“لا لكاتم الصّوت”
في طش فش جورنال كاريكاتير يعود إلى العام 1977 رسمه ناجي العلي الّذي اغتيل بكاتم صوت (في لندن بتاريخ 29 آب/ أغسطس 1987). في الرّسم شهيد فلسطينيّ مكفّن بالكوفيّة الفلسطينيّة، وبمحاذاته يقف الطّفل الصّغير حنظلة يردّد “لا لكاتم الصّوت”.
تتمظهر “حرّيّة التعبير” في فنّ الكاريكاتير العربيّ على هيئتين: الأولى متعلّقة بالدّافع وراء ممارسة الفنّ بشتّى أنواعه، والكاريكاتير هو واحد من الفنون الذي يمنح مساحةً شاسعة للرّسام كي يكسر القيود ويعبّر بحرّيّة مطلقة عن فكرته، وذلك ما يشير إليه الرّسام حبيب حدّاد حين يقول: “الرّسم مفتاح الفكرة”.
أمّا الثّانية فتتمثّل بتعبير الفنّان من خلال اللّوحة أو النصّ أو اللحن، عن القيود المفروضة وعن رغبته في التحرّر، وأحيانًا من خلال السخريّة من الممنوع والمرفوض والعار، وهذا ما يكسره فنّانو الكاريكاتير العربيّ عبر الرّسم والإيحاء والمجاهرة بواقع “حرّيّة التعبير” في الوطن العربيّ وحول العالم.
يرسم فنّان الكاريكاتير السوريّ فهد البحادي لوحة لشرطيّ يفكّر بإلقاء القبض على مواطن لم يرتكب جرمًا إلّا أنّه يفكّر، ويُرفق اللوحة بعنوان “حرّيّة التّعبير ليست جريمة”. ويرسم أسامة حجاج ساخرًا من الرؤية الغربيّة لمفهوم حرّيّة التعبير، رسومات متعدّدة للرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون وهو يعارض السخرية من اليهود لأنّها معاداة للساميّة، والسخرية من السود لأنّها شكل من أشكال العنصريّة، والنساء في الإعلان لأنّ فرنسا ضدّ التحيّز الجنسيّ، أمّا السّخرية من الرسول والمسلمين فهي “حرّيّة تعبير” بنظر ماكرون.
فلسطين في فنّ الكاريكاتير
بين جيل الشّباب والجيل السّابق مشتركات وفروقات كثيرة في رسم الكاريكاتير، وهو ما يبدو جليًّا في “طش فش جورنال” الّتي شكّلت مساحةً للمقاربة بين أعمال الجيلين. ولكن بين هذه المشتركات والمفارقات مشتركًا ثابتًا واحدًا على مرّ عقود، ألا وهو “فلسطين” الّتي تتكرّر في هذا المجلّد، ونجد لها أثرًا في أعمالٍ عريقة مضى عليها الزّمن كأعمال ناجي العلي، وفي أعمال الجيل الجديد.
في “طش فش جورنال” لوحة للفنان السوريّ فهد البحادي وهي لرجل لا نرى منه إلّا كوفيّته وقد تعلّقَ في شباكها جنديّ إسرائيليّ خائف وخانع. ولوحة أخرى لمحمود كحيل، وهي لرجلٍ يمثّل “العالم” بأكمله وهو جالس أمام التلفاز، يلوّح “باي باي” للمسجد الأقصى.
ومن الأردن خطّ رائد فنّ الكاريكاتير الأردنيّ رباح الصغير في العام 1980 رسمًا لأستاذ يدرّس طلّابه وهم يرتدون لباسًا عربيًّا، درس “سقوط الأندلس”، محاولًا استخلاص العبرة، وفي الخلفيّة يظهر المسجد الأقصى وحيدًا، كما هو اليوم.