القاع بوّابة لبنان.. عراقة التاريخ وضريبة الجغرافيا

تتّكئ على كتف العاصي بهدوء وأمان، تسند ظهرها إلى السلسلة الشرقيّة من جبال لبنان، تُنجب مواسم الخير فاكهة شهيّة وخضارًا هنيّة، تنتشر في سهولها سنابل القمح الشقراء، تبثّها طحينًا أبيض يزين موائد الأهل والأحبّة.

هي “القاع” والاسم معناه “الأرض السهلة التي أفرجت عنها الجبال”. حباها الخالق بموقع جغرافيّ مميّز. هي بوّابة لبنان الشرقيّة إلى سوريا، تفتح صدرها للقادم ببسمة الكريم، تشيّع المغادر بشوق الأهل واللقاء القريب. تمتدّ أراضيها على مساحة 182 كيلومترًا مربّعًا، ترتفع عن سطح البحر من 657  مترًا حتى 1621 مترًا، ويقطنها نحو 12 ألف نسمة.

تجمع القاع بين الإرث التاريخيّ والتراثيّ والجغرافيّ وبين النهضة الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصادية وشبكة العلاقات والمواصلات على مختلف المستويات.

سهل القاع

يقول المحامي بشير مطر رئيس بلدية القاع: “بلدتنا لم تولد بالأمس، عمرها آلاف السنين نظرًا لموقعها الجغرافيّ على خطّ تجارة القوافل. يقول بعض المؤرّخين إنّ اجتماع تقاسم مملكة الإسكندر جرى على أرضها في العام 321 قبل الميلاد. وزارها الإمام الغزاليّ سنة 760 ميلاديّة، وأقام فيها وتذوّق خيراتها وأحبّ عسلها. كما كان للأمير فخر الدين فيها قلعة، استقبل فيها القناصل والسفراء الأوروبّيّين”.

مشاريع تنمويّة تنهض بالقاع

يتابع “الريّس” بشير حديثه لـ”مناطق نت”: “إنّ تاريخ القاع يضع على عاتقنا حملًا ثقيلًا للسهر على مصالحها والعمل على تنميتها وخلق حياة أفضل للقاعيّين، وهذا ما دأبنا عليه في المجلس البلديّ، فنفّذنا عدّة مشاريع، وأخرى قيد التنفيذ أو البحث عن تمويل”.

أنشأت بلدية القاع بحيرة كبيرة تتّسع لـ 185 ألف متر مكعّب بكلفة مليون وستمائة ألف يورو “بتمويل من الاتّحاد الأوروبّي، وثمّة بحيرة أخرى صغيرة قيد الإنشاء، تتّسع لثلاثين ألف متر مكعّب بكلفة 200 ألف دولار بتمويل من UNDP “، يضيف مطر.

المحامي ورئيس بلديّة القاع بشير مطر

ترافقت عمليّة إنشاء البرك مع شبكة أقنية للريّ بطول 15 كيلومترًا، وإنارة الطرقات بواسطة الطاقة الشمسيّة، وسوق للخضار، ومركز للمطالعة والترشيد الثقافيّ، ومحطّات طاقة شمسيّة لتغذية بئر مياه الريّ بالكهرباء وكذلك بئر أخرى لمياه الشفة، وبرّاد زراعيّ لحفظ الفواكه.

وبحسب مطر “شارك الجيش اللبنانيّ بتطوير شبكة المواصلات في القاع وأطرافها، فقام مشكورًا بتعبيد شبكة من الطرقات إلى الجرود، استفاد منها المواطنون والمزارعون، لكن تبقى المنطقة الاقتصاديّة هي الحلم الأكبر الذي نسعى إليه، لما لها من فوائد ليس على القاع فحسب، بل على المنطقة برمّتها”.

في مهبّ المشاريع واللجوء

جعلت المساحة الكبيرة الممتدة التي تتمتّع بها بلدة القاع، حيّزًا من أراضيها في مهبّ الفوضى، فقامت مجموعة من المشاريع عنوة عن موافقة البلديّة وأهل البلدة.

في هذا الإطار، يقول مطر لـ”مناطق نت”: “في موضوع مشاريع القاع، أودّ أن أشير إلى أنّنا لا نريد الاعتداء على أحد أو سلبه حقوقه، لكنّنا لا نقبل أبدًا الاعتداء على أرضنا ومياهنا عبر الآبار ووضع اليد عنوة على الأملاك العامّة والخاصّة. كانت مطالبتنا الدائمة بالضمّ والفرز لإنصاف الجميع وإحقاق الحقّ عبر القانون”.

إحدى البحيرات التي أنشأتها البلدية

ويتابع: “لا يجوز أن نعيش في الجمهوريّة اللبنانيّة وتحكمنا قوانين الخلافة العثمانيّة، فليتمّ فرز أراضي مشاريع القاع، ويأخذ كلّ ذي حقّ حقّه، بعيدًا عن الاتّهام والاستغلال. أمّا النازحون السوريّون فهم ثلاثة أنواع: نازح فعليّ، نازح اقتصاديّ، ونازح “تخريبيّ” فعلى النازح الفعليّ والاقتصاديّ التنبّه من النازح التخريبيّ الذي يشكّل خطرًا فعليًّا علينا وعلى لقمتهم ومصيرهم”.

ويختم مطر بمناشدة وزير الأشغال العامّة “الاهتمام بالطريق الدوليّة، من خلال التعبيد والإضاءة ووضع إشارات السلامة العامّة والمروريّة، لا سيّما وأنّنا ودّعنا قبل أسابيع قليلة رئيس مركز الأمن العام في القاع الرائد الشهيد روجيه جريج في حادث سير مروّع”.

الطقس الجميل وعشاق الطبيعة

يشكّل المناخ اللطيف شبه الصحراويّ، واتّساع المساحة الجغرافيّة، حالًا من الهدوء وغياب زحمة السيارات تساعد كلها في تنشيط السياحة الطبيعيّة والبيئيّة ورياضة المشي والصيد والاستجمام. هذا ما شجّع بعض المستثمرين على إقامة مشاريع شاليهات سياحيّة على جانبي الطريق نحو بلدة القاع.

تقول ابنة القاع الدكتورة خلود التوم لـ”مناطق نت”: “نحن القاعيّين متجذرون بأرضنا، نلتصق بها كجنين في رحم أمّه، وعلاقتنا بالطبيعة والأرض وجدانيّة عاطفيّة وجوديّة. أمّا سهل القاع فعلى امتداده مريح للنظر يبعث السلام والراحة في النفس، قريب من الجبال، هواؤه نقيّ يساعد مرضى الصدر والرئة والربو وغيرها على الشفاء والتخلّص منها والتمتّع بصحّة جيّدة”.

الدكتورة خلود التوم

وتؤكّد التوم “أنّ رياضة المشي في بلدتنا جزء من طقوسنا بالنسبة للشباب والمسنّين، فهي تريحهم من الضغوط النفسيّة اليوميّة ومصاعب الحياة، خصوصًا في جوّ يسوده الهدوء والسكينة، إذ لا ضجيج، لا زحمة، ولا تلوث بيئيًّا، ثمّة انسجام تامّ مع الطبيعة وجمالها”.

بدأت السياحة البيئيّة في القاع تأخذ منحى دائمًا منذ العام 2017  عندما نظّمت جمعيّة “همم” لأوّل مرّة “Trail” السكّة وقامت بإدخال عناصر جديدة على “الهايكينغ”، لم يعد مقتصراً فقط على المشي في الطبيعة والجبال، بل أضافت إليه زيارات البيوت الترابيّة التراثيّة (التي يعاد ترميمها) وتذوّق خبز التنّور والفواكه المجفّفة وكلّ ما هو صحّي وسليم.

لعنة الجغرافيا والشهادة

بالرغم من أن ّجذورها ضاربة في أعماق التاريخ آلاف السنين، وعبور سهلها الفسيح قوافل الأستانة، دمشق، حلب، القدس، واحتضان ترابها الأقنية التي شقّتها زنّوبيا ملكة تدمر من نهر العاصي ونبع اللبوة إلى مملكتها. لم يكن موقع القاع الجغرافيّ مصدر أمن دائم لأبنائها، بل وضعها في عين العواصف وفي موعد مستمرّ مع “الشهادة”.

بالرغم من أن ّجذورها ضاربة في أعماق التاريخ آلاف السنين، وعبور سهلها الفسيح قوافل الأستانة، دمشق، حلب والقدس، لم يكن موقع القاع الجغرافيّ مصدر أمن دائم لأبنائها، بل وضعها في عين العواصف وفي موعد مستمرّ مع “الشهادة”.

منذ استقلال لبنان انتمت القاع إلى قضاء بعلبك- الهرمل، إلى المنطقة الأكثر حرمانًا. مع بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة البشعة دفعت فاتورة كبيرة من دماء شبّانها فسقط لها في العام1975 ستّة شهداء، ثمّ 26 شهيدًا في العام 1978، في مجزرة القاع الشهيرة على أيدي الجيش السوريّ. ولم يرحم وحش الإرهاب الداعشيّ وداعتها فسقط لها بمتفجّراته خمسة شهداء و32 جريحًا سنة 2016 ، وكان لها نصيب في تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب  2020 باستشهاد ابنة القاع الصبيّة سحر فارس.

الثقافة والتمكين الإقتصادي

كما الأمم والدول لا تسلك درب التقدّم والتطوّر والتنمية بغير العلم والثقافة وبناء القدرات، كذلك المجتمعات الصغيرة، تنهض وتتطوّر ببناء أجيال ناضجة ثقافيًّا وفكريًّا وعلميًّا.

في مركز المطالعة والتنشيط الثقافيّ التقينا الناشط الاجتماعيّ الأستاذ حكمت عاد فقال لـ”مناطق نت”: “ضمن مبدأ التكامل والتعاون مع المجلس البلديّ فإنّنا في المجتمع المدنيّ، جمعيّات وأفراد، نقوم بمبادرات لتمكين الناس مهاراتيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا”.

الناشط الإجتماعي حكمت عاد

ويضيف: “لقد ساهمنا في تأسيس التعاونيّة النسائيّة التي تهتمّ بسيدات بلدتنا، لإشراكهنّ ودمجهنّ في كلّ مناحي الحياة. أيضًا أسّسنا التعاونيّة الزراعيّة التي تعنى بالمزارعين واحتياجاتهم وترفع من جودة محاصيلهم ومنتجاتهم وتسويقها، بما يعود بالنفع عليهم. كذلك أرسينا شراكات مع عدّة جمعيّات ومنظّمات دوليّة ومحلّيّة لإفادة الشباب والسيّدات من برامجها للتمكين الاقتصادي، ومؤشّرات وقصص نجاحها عديدة ومتنوّعة”.

أمّا ثقافيًّا “فهذه المكتبة حيث نجلس تشهد قاعتها على عشرات الندوات الثقافيّة الفكريّة والأمسيات الشعريّة وتكريم الشعراء والكتّاب والمثقّفين” يضيف عاد ويردف: “لا بدّ من التنويه بالثقافة الدينيّة التي أسّست للسياحة الدينيّة أيضًا، فابن القاع متمسّك بإيمانه المسيحيّ وكلّ طقوسه وأركانه، أرضنا تزخر بالموروثات الدينيّة والمزارات المقدّسة من تلّة الصليب لمقام مار جرجس، ومزار سان تيريز وكنيسة مار شربل وكنيسة مار الياس وتلّة السيدة، يتوافد إليها المؤمنون من كلّ المناطق اللبنانيّة”.

الريف اللبنانيّ الذي وضع عنه كبار أدباء لبنان وشعرائه ومثقّفيه وفنّانيه عشرات الكتب والمؤلّفات والقصائد والأغاني، من جبران خليل جبران إلى مخائيل نعيمة وفؤاد سليمان والرحابنة وغيرهم، يمكن لزائر بلدة القاع البقاعيّة أن يتلمّس مفرداتهم وقوافيهم ونغماتهم وأصواتهم تصدح في شوارع القاع وجبالها وسهولها وبساتينها، وفي وجوه وجباه أهلها المحبّين.

من آثار القاع
داخل شوارع القاع

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى