عن الأب الذي لم أختره أبدًا!
أتساءل منذ كنت في فترة الطفولة لماذا أنا هنا؟ ما هي الفائدة من كوني على قيد الحياة؟ كان كلّ ما يشغلني آنذاك هو فضولي لمعرفة كيف تكون الحياة مع أبٍ غير معنِّفٍ، مع أبٍ ناضجٍ عاطفيًّا، أبٍ تخلّص من كلّ الرواسب والصدمات التي عاشها في حياته قبل اتّخاذه قرار الزواج والإنجاب؟
سؤالٌ صعبٌ جدًّا لطفلٍ صغيرٍ من المفروض أن تكون أقصى اهتماماته باللعبة الجديدة التي يريد أن يحصل عليها، أو انتظار عطلة نهاية الأسبوع كي يخرج للعب، والاستمتاع بوقته، مجرّدًا من القلق والأفكار البشعة، بأنّه مهما أحسن التصرف بالنسبة لمفهوم أبيه، فهو لن يرضيه، وحتمًا سينال عقابه من الصراخ والشتائم أو حتّى الضرب أمام الناس، وفي حال اكتفى من دون الضرب، فكان الكابوس الأكبر هو المنزل، فحزام أبي جاهز للنيل من جسدي فور عودتنا.
أذكر جيّدًا تفاصيل كل “قتلة” كنت أتعرّض لها، سواء كان أبي على حقٍّ أو لم يكن، طبعًا في تلك الفترة من حياتي أصبح الضرب شيئًا عاديًّا، وفي معظم الأحيان. كنت أعتقد أنّني أستحقّ هذه المعاملة لأنّني أسأت التصرّف وأغضبت أبي.
طفولة وجحيم
كانت غرفته هي الجحيم بالنسبة لي، فكانت كلّ “المعارك” تحدث فيها، كذلك لأنّ الدرج الذي يحتوي على أحزمته كامن فيها. أسميتها بالمعارك لأنّها من غير المعقول أن تسمّى بالعقاب الذي يمارسونه الأهل على أولادهم، للأسف، فكنت أنال نصيبي من الضرب عدّة دقائق، تمرّ عليّ كأنّها ساعات. ضربٌ على جسدي أو وجهي وحتّى على رأسي، فهو لا يبالي، كلّ همّه أن يفرغ غضبه عليّ وأن يشفي غليله. تعابير وجهه المخيفة لا تفارق ذاكرتي، كأنّه ينتقم من ألدّ أعدائه.
لم أكن أعرف من أين اكتسب كلّ هذه القسوة وكيف يمكن لأب أن يعامل طفله الصغير بهذا الشكل؟
لم تكن تفارقني كلّ هذه الأفكار والأسئلة، وكان كلّ ما يشغلني هو إرضاء أبي وأن أعيش طفولة سليمة وهادئة مليئة بالحب والحنان والعاطفة، ظنًّا منّي بأنني المشكلة والحلّ عندي.
لم أكن أعرف من أين اكتسب كلّ هذه القسوة وكيف يمكن لأب أن يعامل طفله الصغير بهذا الشكل؟
لم تكن تفارقني كلّ هذه الأفكار والأسئلة، وكان كلّ ما يشغلني هو إرضاء أبي وأن أعيش طفولة سليمة
كنت أمضي أكثر أوقاتي في غرفتي، أنتظر خروجه من المنزل، أو دخوله إلى غرفته حتّى أتمكّن من الخروج إلى الصالون والجلوس مع أمي، هي التي كانت عاجزة عن ردعه لأنّها كانت تنال نصيبها من الشتائم والصراخ أيضًا، وإلقاء اللوم عليها بأنّها هي من أفسدتني في طريقة تربيتها لي، من خلال دلالها الزائد وخوفها عليّ.
أمي لم تستطع فعل شيء
غالبًا ما كنت أجري مقارنة بين طريقته وطريقة أمّي، هل صحيح أنّ الذي يخاف على ابنه ويريد حمايته من الحياة ومخاطرها ولا يكترث لإرضاء الناس على حساب ولده هو مخطئ؟ حاولت أمّي طوال فترة طفولتي ومراهقتي أن تكون قريبةً منّي وصديقتي، لكن غلبني الحزن المتواجد فيداخلي وأبقاني وحيدًا في المنزل وفي المدرسة.
في طبيعة الحال، هذه المعاملة أثّرت على سلوكي في المدرسة، أصبحت ذاك التلميذ المشاغب، الذي لا يبالي بدراسته ودروسه، فكان في كلّ أسبوع أو كلّ أسبوعين ثمّة استدعاء لأهلي من أجل التحدث بشأني. وهنا كان يشكّل الكابوس الثاني لي، حضور أبي إلى المدرسة، ولم يكن على لسانه إلّا جملة واحدة لمدير المدرسة: “هيدا الصبي بين إيديك، فيك تعمل فيه شو ما بدّك، اضربه حتّى يتربّى، أنا مسلّمك إيّاه وعاطيك الصلاحية الكاملة”. كأنّني سلعة يملكها، ليست لديّ أيّ مشاعر وهو يمتلك الحقّ في تسليمي لرجلٍ غريبٍ كي يضربني هو أيضًا.
أعيد تكرار هذه الجملة في ذهني، هي التي صدرت عن شخص من المفترض أن يكون سندًا لي، وملجأي في حين تعرضّي لأيّ مكروه.
علاقة متوترة وألفاظ نابية
بقيت علاقتنا متوتّرة جدًّا والأمور تزداد سوءًا في البيت، مع توجيه ألفاظٍ نابيةٍ إليّ، وتنمّر ومحاولة إقناعي مرارًا وتكرارًا بأنّني فاشل ولن أحقّق شيئًا في حياتي المستقبليّة. للأسف، نجحت خطّته، وأهملت دراستي بشكلٍ كاملٍ، وأقتنعت أنّني فاشل ولا أملٌ منّي.
كنت أخاف جدًّا من تواجدي في الأماكن المظلمة بمفردي، ذات مرّة كنت في الحمام (المرحاض) وانقطع التيّار الكهربائيّ، فأصابتني نوبة هلع وبدأت بالصراخ، خرجت على أثر ذلك أمّي من غرفتها مسرعة نحوي، بينما كان أبي متواجدًا في الغرفة الثانية، فسمع صوت أمّي وهي تحاول تهدأتي ولم يحرّك ساكنًا.
كنت أخاف جدًّا من تواجدي في الأماكن المظلمة بمفردي، ذات مرّة كنت في الحمام وانقطع التيّار الكهربائيّ، فأصابتني نوبة هلع وبدأت بالصراخ، خرجت على أثر ذلك أمّي من غرفتها مسرعة نحوي، بينما كان أبي متواجدًا في الغرفة الثانية
في اليوم التالي، خرجنا أنا وأبي للتبضّع، وعندما كنّا في السيارة، صادفنا جارتنا فاستوقفها أبي يقول لها: “بتعرفي إنّو هو بيخاف من العتمة ومبارح كان بالحمام لحاله وصار يبكي بس راحت الكهربا؟” طبعًا مع ضحكة ساخرة.
لا أريد إكمال تعليمي
هناك قصّة أخرى جديرة بالذكر، وهي أنّه وفي أثناء تناولنا طعام الغداء، قلت لأهلي إنّني لا أريد استكمال تعليمي، فوافق أبي، ولكنّه أجابني مشترطًا أنّه لن يصرف عليّ في حال توقّفت عن الدراسة، ثمّ أقلّني بسيارته متوجّهًا نحو محطّة وقود كي أبحث عن عمل، تركني هناك مدّة عشر دقائق وحيدًا أبكي من شدّة الخوف، وكان جميع العابرين ينظرون إليّ مستغربين، لماذا أبكي؟ وبعد مرور تلك الفترة عاد كي يصطحبني إلى المنزل قائلًا لي: “هكذا ستكون حياتك الجديدة من دون المدرسة، في طبيعة الحال تراجعت عن قراري فورًا”.
حصلت كل هذه الأحداث معي بين أعوام السابعة والثانية عشرة من العمر.
استمرت هذه الأحداث لكن بشكلٍ مختلف، إذ اتّخذت منحى أصعب، في حين أنّني كنت أكبر في العمر، وبدأت الخلافات حول خروجي من المنزل. كان يتقصّد أن يحرجني أمام أصدقائي من خلال منعي من مرافقتهم وإقامة النشاطات معهم.
هنا، بدأت أنغلق على ذاتي أكثر فأكثر، كي أتجنّب الإهانات والإحراج أمام أصحابي. ولكن، كنت أريد أن أُخرج الغضب والحزن المتواجدين بداخلي، فلجأت إلى التدخين وأنا في عمر صغيرٍ جدًّا. كان شعور التعلّق بالسيجارة يعطيني الراحة نوعًا ما، وأشعر بأنّني أفرغ كلّ ما في داخلي.
في سنّ المراهقة، كنت أجهل أيضًا لماذا أنا هنا؟ ألا أستحقّ أن أعيش حياة هادئة وطبيعيّة؟
ضرب مبرّح
لن أنسى ذات مرّة عندما عدت من المدرسة حاملًا إنذارًا، يقضي بحضور ولي أمري، وذلك بسبب أمرٍ ارتكبته في الصفّ عن غير قصدٍ. أخبرت أمّي عن الموضوع، لكن لم يكن لديها شأن في الحلّ والربط، فالأمر يتعلّق بولي أمري الذي هو والدي، المعنيّ بالحضور إلى المدرسة. ولأنّها مدرسة رهبان والسلطة فيها تعود للرجال، فلا مجال لمناقشة سلوك تلميذ مع امرأة.
لن أنسى ذات مرّة عندما عدت من المدرسة حاملًا إنذارًا، يقضي بحضور ولي أمري، وذلك بسبب أمرٍ ارتكبته في الصفّ عن غير قصدٍ. أخبرت أمّي عن الموضوع، لكن لم يكن لديها شأن في الحلّ والربط
فور إبلاغ أبي بالموضوع، لم يفكّر حتّى بالتحدّث معي في الأمر، قام أوّلًا بضربي على وجهي، ومن ثم رمى بي على الأرض ودعس على رأسي، وأثناء التفلّت منه أصاب أذني اليسرى فسال منها الدمّ وتورّمت. في اليوم التالي، رفضت الذهاب إلى المدرسة وفضّلت البقاء في المنزل لأنّني كنت محرجًا جدًّا من الخروج وأنا في تلك الحال. أجبرني أبي على الخروج وهدّدني بضربٍ أقوى من الّذي سبق إذا عارضته.
عودة صامتة وخجولة
فور دخولي إلى باحة المدرسة، بدأت تلاحقني نظرات التلامذة الغريبة، لم أعلم حينها ما إذا كانت تلك النظرات بدافع الشفقة، أو مادّة للتنمرّ، وكأنّي لم أنل نصيبي الكافي من أبي “المتنمّر”.
لا أنسى عندما رأتني المسؤولة عنّي وكنت في الصفّ الثامن حينها، كم كانت الصدمة بادية على وجهها، فسألتني باستغراب شديد: “ماذا الذي أصاب أذنك”؟ فأجبتها بأنّها نتيجة ظلم تلميذ لم يرتكب خطأً عن عمد وإرسال إنذارِ معه لأبٍ معنّفٍ”.
أسئلة بلا أجوبة
أتقدّم في العمر وأنا أجهل مصيري ومستقبلي، كلّ الذي أعرفه هو سلوكي الغريب، الغضب والحزن اللذين في داخلي.
بدأت أهتمّ أكثر في مجال علم النفس، أريد أن أفهم كلّ شيء مررت به، أردت الغوص أكثر في سلوك أبي، من أين يستمدّ قوّته؟ لماذا كلّ هذا الغضب؟ ألم يحن الوقت لخلع بزّته العسكريّة التي ارتداها أثناء الحرب الأهليّة، ومن ثم خلعها وارتدى الثياب المدنيّة، لكنه لا يزال يتصرّف ممتثلًا لها؟ ثوب الحنان والحبّ والأمان؟ هل هو يعاملني بهذا الشكل لأنّه يشعر بالغيرة منّي؟ هل أنا أحظى باهتمامٍ من أمّي قد سُلب منه؟
هل صحيح أنّ النساء هنّ من يشعرن بالمنافسة والخطر من بعضهنّ وليس من الرجال؟ على ما يبدو أن مجتمعاتنا الذكوريّة تخفي هذا الأمر عنّا، وتركّز على توجيه هذه الأمور نحوهن وزرع فكرة لدينا، أنّ النساء من يشعرن بانعدام الأمان والغيرة وليس نحن.
كلّ هذه الأمور تدور في فلك العيش، مع أب يعاني من اضطراب القلق ما بعد الصدمة، كلّ هذه المعاملة نمّت لدي فكرة أنّني شخص فاشل، لست ناجحًا بأيّ شكلٍ من الأشكال، لا في دراستي، ولا في صداقاتي، لا في عملي، ولا في علاقاتي العاطفيّة. أعاني من القلق الاجتماعيّ ومن الاكتئاب منذ أكثر من عشر سنوات، ومؤخرًّا تم تشخيصي من أنّني مصاب باضطراب الوسواس القهريّ، وها أنا الآن أتناول الدواء لعلّه يساعدني في استكمال حياتي والمضي قدمًا.
أنا الآن وجهًا لوجه أمام مصيري، يلاحقني الماضي بكلّ تفاصيله، لن أهرب منه هذه المرة، سأحاول مواجهته بحزم وقوّة، لكن الثابت أنّني لا أشبه أبي بشيء، ولن أشبهه بشيء لا في عاداته ولا معتقداته، لا في آرائه، والأهمّ من ذلك سلوكه، فلا ينقص هذا العالم البشع عنفًا إضافيًّا، فهو مليء بالقسوة بما فيه الكفاية.