عيترون المنكوبة خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد والممتلكات
عيترون مشرّعة منذ أمد بعيد على العطاء والعمل وتعلّق أهلها بأرضهم، التي جادت بالمواسم الزراعّية المختلفة، وبحركة إنتاجيّة قلّ نظيرها، في بلدة ومحيط عانيا طوال ربع قرن من الاحتلال الإسرائيليّ المباشر، حتّى أيار من العام 2000، والذي كان لحظة تاريخية حاسمة، انطلقت بعده البلدة بسرعة فائقة،حيث تجلّت فيها الحركة العمرانية اللافتة، والاقتصاديّة الوافرة، والإنتاجيّة المميزة، وكثرت فيها المزارع والمعامل والمؤسّسات التجاريّة والصناعيّة.
هي بلدة زراعيّة بامتياز، لا بل الأولى في المنطقة، وتتمتّع بحركتها الاقتصاديّة والتجاريّة اللافتة، والتي تتوزّع في مجالات متعدّدة، منها مزارع الدواجن والمواشي، ومنها صناعة الأجبان والألبان، ومنها تربية النحل، إلى سوق تجاريّة نشطة تضم عددًا كبيرًا من “السوبرماركت” والمتاجر المتفاوتة والمصالح الحرفيّة. كلّ هذه القطاعات، أصابها العدوان والدمار اليوم في الصميم، فتضرّرت وتعطّلت ونزح عنها أصحابها تحت وابل القصف والاعتداءات الإسرائيليّة المستمرّة منذ نصف عام.
تعتبر عيترون أكبر بلدات قضاء بنت جبيل وأهمّها، لكنّ موقعها الجغرافي على حدود فلسطين المحتلّة، أذاق أهلها المرارة والاعتداءات مرّات ومرّات، ليس من نصف عام فحسب، بل منذ احتلال إسرائيل فلسطين في العام 1948، إذ توازيها في داخل الحدود المحتلّة مجموعة من القرى والبلدات اللبنانية المحتلة هي الأخرى وتعرف بـ”القرى السبع” على نحو “قَدَس” التي أقيمت على أراضيها مستعمرة “يفتاح”، وصلحا التي أصبحت “بيرؤون”، و”المالكيّة” وقد غدت بالعبريّة “ملكياه”، وتقع جميع هذه القرى إلى الشمال من منطقة صفد في فلسطين.
موقع عيترون هذا، جعلها اليوم من أكثر البلدات عرضةً للقصف الاسرائيليّ الذي بدأ منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ويستهدفها بشكل متكرّر منذ ذلك الحين، ما أدّى إلى استشهاد وسقوط عديدٍ من أبنائها ونزوح معظم أهاليها وسكّانها.
هذا الوضع المستجدّ والقصف المستمر انعكسا سلبًا على مختلف عوامل الحياة في عيترون، وباتت الخسائر اليوم أكبر من أن تُحصى، خصوصًا في ظلّ استمرار الحرب وتوسّعها من جهة، وعدم استقرار أرقام الأضرار وتصاعدها من جهة أخرى.
الزراعة في عيترون متوقّفة كلّيًّا، المحال التجارية مقفلة، وإن فتحت أبوابها فلوقت قصير ومحدود، المعامل متضرّرة، والأعمال جامدة. هذه هي حال عيترون اليوم، البلدة التي تضجّ عادة بناسها وبأبناء القرى المجاورة والمحيطة بها.
عيترون فاقة بعد عزّ
تعتبر عيترون الأولى زراعيًّا وخصوصًا زراعة التبغ، حيث يعمل معظم سكّانها منذ عشرات السنين في هذا القطاع. أمّا اليوم فأقلّ من خمسة بالمئة من مزارعيها تمكّنوا من زراعة أراضيهم، وفقط تلك التي تقع ضمن نطاق القريّة، والسبب أنّ غالبيّة أراضي البلدة الزراعيّة تقع على الحدود اللبنانيّة- الفلسطينيّة.
يقول المزارع إبراهيم يوسف عبد المنعم، وهو يوزّع نشاطه بين زراعة التبغ والخضار في عيترون، لـ”مناطق نت”: “نحن لا خيار آخر لنا اليوم إلّا التبغ، إذ إنّه مصدر الرزق الأساسيّ والوحيد لعائلاتنا”. ويشير إلى أنّ “عديد المزارعين الذين تمكّنوا من زراعة الموسم لا يتعدّى العشرة، وذلك من مجمل أهالي البلدة ممّن يعتاشون من هذه الزراعة ويبلغ عديدهم أكثر من ألف مزارع”.
تعتبر عيترون الأولى زراعيًّا وخصوصًا زراعة التبغ، حيث يعمل معظم سكّانها منذ عشرات السنين في هذا القطاع. أمّا اليوم فأقلّ من خمسة بالمئة من مزارعيها تمكّنوا من زراعة أراضيهم وفقط تلك التي تقع ضمن نطاق القريّة
“وحدها شتلة التبغ موقّفتنا ع إجرينا وهي مصدر قوّتنا وما خلتناش نعتاز حدا”، هكذا يصف عبد المنعم علاقته بتلك الزراعة. محذّرًا من أنّ “الخطر المحدق اليوم يتمثّل بالاحتلال ومحاولاته المستميتة لجعلنا نرحل عن أراضينا، وهذا ما لن نفعله”. مؤكّدًا في الوقت عينه “أنّه لي الشرف أن أموت في الحقل، وأثناء تأمين لقمة عيش أطفالي الأربعة، على أن أغادر أرض بلدتي”.
فضلًا عن زراعة التبغ، تحتلّ زراعة الخضار والحبوب وخصوصًا القمح والعدس والحمّص وغيرها مكانة مهمّة في حقول عيترون، لكنّ القصف المتواصل وما تتعرّض له البلدة جعل أراضيها اليوم قاحلة تنادي أصحابها وتشتاق إلى معاولهم ووجوههم التي تعفّرت بترابها.
أضرار لا تّعد أو تحصى
حتى منتصف شباط المنصرم، تعرّضت عيترون لـ141 اعتداءً إسرائيليًّا، وذلك بحسب الإحصاء الذي أعدّته “المنصّة الوطنيّة للإنذار المبكر في المجلس الوطنيّ للبحوث العلميّة”، بالتعاون مع “وحدة إدارة مخاطر الكوارث في مجلس الوزراء” و”اتحاد بلديات قضاء صور”.
نجم عن هذه الاعتداءات تضرُّر أكثر من 400 وحدة سكنيّة، إمّا بشكل كلّيّ أو جزئيّ، وذلك بحسب ما كشفه رئيس بلدية عيترون سليم مراد لـ”مناطق نت”.
ويشير مراد إلى أنّ هناك أحياءً منكوبة لا يستطيعون الوصول إليها حتّى اليوم لمعرفة ماذا حلّ بمنازلها. “كلّ ذلك أدّى إلى نزوح معظم أهالي القرية إلى البلدات والقرى المختلفة، وخصوصًا نحو بلدتي صريفا وكوثريّة الرّز”.
ويضيف: تحاول بلدية عيترون قدر المستطاع المحافظة على مقوّمات الصمود، فتعمل على تأمين الكهرباء بشكل مستمرّ ومجّانيّ للأهالي الذين ما زالوا مقيمين في البلدة، وكذلك المياه من البئر الإرتوازيّة. كذلك تعمل على إزالة النفايات وجزء من الدمار، ونقلها إلى المكبّات والمعامل المجاورة بعد تضرّر معمل فرز النفايات في عيترون بشكل كبير جراء القصف الإسرائيليّ”.
أمّا بالنسبة للقطاع الزراعيّ فيؤكّد مراد “أنّ القطاع الزراعيّ في عيترون مُدمّر كلّيًّا، خصوصًا موسم التبغ الذي يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والخطوات، فالأراضي لم تُفلح والشتول لم تُزرع”.
انهيار مزارع الدواجن والمواشي
يعاني قطاع الدواجن في عيترون من انهيار تامّ وذلك لوقوع المزارع في الخطوط الأماميّة التي تجاور الحدود مباشرة، وقد تعرّضت للقصف وأصيبت بأضرار جسيمة، ما أدى إلى نفوق كثير من الطيور وتعطّل العمل فيها بشكل كلّيّ.
كان قطاع الدواجن في عيترون ناشطًا قبل الحرب، إذ تضمّ البلدة عددًا كبيرًا من المزارع، يناهز 23 مزرعة تتوزّع بين ثلاث كبيرة تهتمّ بإنتاج البيض، وتضم نحو 19 ألف طير نفقت كلّها بسبب القصف، وقرابة الـ20 للحم الفرّوج، عدا عن أنّ عددًا كبيرًا من أبناء عيترون يقتنون قرب منازلهم مزارع صغيرة تضمّ بي 50 طيرًا وصولًا إلى مئة طير.
أمّا في ما يتعلّق بقطاع المواشي في عيترون، فتضمّ البلدة نحو ثلاثين مزرعة أبقار، عدا عن المزارعين الصغار ممّن يربّون أبقارًا قرب منازلهم وهم كثر. وقد اضطرّ هؤلاء إلى بيع معظم أبقارهم بأسعار زهيدة خشية نفوقها جرّاء القصف والاعتداءات، وقلّة منهم عملت على نقلها إلى حيث نزحت لمتابعة رعايتها والاستفادة من حليبها قدر الإمكان، علمًا أنّ تربية الأبقار لها أكلاف كبيرة تتنوّع ما بين التغذية والعلاج والاهتمام الدائم، وكلّ ذلك غير متوافر في ظلّ الحرب المشتعلة.
كذلك حذا مربّو المواشي من أغنام وماعز حذو مربّي الأبقار، فلجأ عديد منهم إلى بيع مواشيه، ومن يملك عددًا قليلًا منها استطاع أن يحافظ عليها، ونقلها معه إلى حيث رحل.
كارثة معامل الألبان والأجبان
يوجد في عيترون معملان لإنتاج الألبان والأجبان، الأوّل “معمل الجرّة” والثاني يتبع لبلدية عيترون. إلّا أنّه ونتيجة الحرب، خرج المعملان عن الخدمة.
يشير رئيس تعاونيّة الإنتاج والتسويق الزراعيّ والحرفيّ في عيترون والمشرف على معمل الأجبان والألبان التابع للبلديّة حسن حمد لـ”مناطق نت”: “إلى أنّ المعمل يقع في منطقة تدعى “المطيط” وهي قريبة جدًّا من الحدود، ممّا أدى إلى تضرّره وخروجه عن الخدمة”.
ويؤكّد “أنّ حجم الأضرار كبير والخسائر كثيرة، حيث كان يتمّ العمل يوميًّا على نحو طن ونصف طن من الحليب، أمّا اليوم فالأبواب مقفلة أمام أيّ إنتاج”. ويضيف: “كان المعمل يشتري الحليب يوميًّا من حوالي أربعين إلى خمسين مربّي أبقار في عيترون والجوار، كلّ ذلك توقّف اليوم”.
ويؤكّد كذلك “أنّه يصعب نقل المعمل إلى مكان آخر في هذه الآونة، لارتفاع كلفة النقل وصعوبة نقل الآلات والمعدّات”.
أمّا “معمل الجرة” فقد توقف عن الخدمة بعد نزوح العمّال، وقد حاول القيّمون عليه، نقله إلى بلدة مشغرة، بيد أنّ المحاولة لم تنجح. وقد تمّ توزيع المنتجات التي كانت موجودة في المعمل وتبلغ قيمتها نحو أربعين ألف دولار، بعد العجز عن تصريفها.
من جهته أشار المسؤول عن المعمل حسن محمود مراد، في اتصال مع “مناطق نت”، إلى “أنّ الخسائر في المعمل كبيرة جدًّا وتصل إلى ثلاثمائة ألف دولار”. وأكّد محاولة العمل في مكان آخر خارج عيترون، “إلّا أنّ الجودة لم تكن عالية، ما أدّى إلى ضرر في اسمنا التجاريّ”.
ولفت إلى اضطرار أصحاب العمل إلى بيع الأبقار العائدة للمعمل، والتي كانت قيمتها خمسين ألف دولار بعشرين ألف دولار فقط. يذكر أنّ المعمل كان يصرّف إنتاجه في مختلف المناطق اللبنانيّة، وكذلك في بعض الدول الأجنبيّة، وكان ينتج كمّيّة تصل إلى نحو 3.5 أطنان حليب يوميًّا.
قطاع النحل على حافّة الانهيار
يعاني مربّو النحل اليوم من ويلات الحرب نفسها، التي انعكست على إنتاجهم فأدت إلى انهياره. يوزّع مربو النحل في عيترون قفران النحل الخاصّة بهم في الحقول الحدوديّة كونها نقطة “استراتيجيّة” تساعد على إنتاج العسل، بين فلسطين ولبنان، إلّا أنّ ذلك انعكس بشكل سلبيّ على الإنتاج نفسه، فلا أحد يعلم ماذا حلّ بالقفران المتروكة لمصيرها هناك.
يوزّع مربو النحل في عيترون قفران النحل الخاصّة بهم في الحقول الحدوديّة كونها نقطة “استراتيجيّة” تساعد على إنتاج العسل بين فلسطين ولبنان، إلّا أنّ ذلك انعكس بشكل سلبيّ على الإنتاج، فلا أحد يعلم ماذا حلّ بالقفران المتروكة لمصيرها هناك
يشير سامر خليل حيدر، أحد مربّي النحل في عيترون لـ”مناطق نت” إلى “أنّ عديدًا من الأشخاص من خارج نطاق المنطقة يوزّعون قفرانهم في الأراضي الحدوديّة، ولم يستطع أحد منهم أن ينجو بأيّ منها”.
ويؤكّد “أنّ القذائف الفوسفوريّة أثّرت أيضًا بشكل كبير على القفران، ما أدّى إلى نفوق النحل في داخل الصناديق، وأنّ من استطاع نقل البعض منها إلى خارج نطاق البلدة يعاني جدًّا في سبيل تربيتها والحصول على إنتاجها”.
وعن النحل الخاصّ به، يلفت إلى أنّه استطاع أن ينقل جزءًا من القفران إلى المنطقة الساحلية “ولكن بحدود الربع فقط، أمّا ما تبقّى فنفق نتيجة القصف، حيث كنت أنشرها في منطقة تسمّى “جبل الباط” في عيترون وأخرى قرب حرج يارون”. وعن إحصاء الأضرار، يشير إلى أنّه كان يملك قرابة 100 قفير نحل، “وما تبقّى لا يتجاوز أربعين قفيرًا، وهي في بنية ضعيفة”.
يُقطف النحل عادة في شهر نيسان/أبريل، أيّ في الشهر الجاري، “إلّا أنّ هذا الأمر غير متاح اليوم نتيجة الخطر المحدق” ويقول حيدر لـ “مناطق نت” ويؤكّد أنّه كان ينتج عادة قرابة 600 كيلو عسل ويبيعها في مختلف المناطق اللبنانيّة وصولًا إلى العاصمة بيروت، “وحتّى أنّ البعض كان يحملها معه إلى بلاد الاغتراب”.
التجارة في أسوأ أحوالها
تعتبر عيترون من القرى الجاذبة لمعظم سكّان القرى المحيطة، وذلك لتواجد أكثر من سبع تعاونيّات كبيرة فيها، تضمّ مختلف الموادّ الغذائّية وبأسعار تنافسيّة مقارنة مع باقي القرى والمناطق.
تضجّ البلدة المجاورة لعاصمة القضاء بنت جبيل عادة بالمواطنين في مختلف أيّام الأسبوع. إلّا أنّ الوضع المستجدّ، فرض على بعض هذه التعاونيات الإقفال، إمّا كلّيًّا أو جزئيًّا، وبات الإقبال عليها أقلّ من خجول، ممّا أدّى إلى خسائر كبيرة.
يقول المختار حسن قوصان وهو يملك إحدى هذه التعاونيات في عيترون لـ”مناطق نت” إلى “أنّنا ما زلنا نفتح السوبّرماركت ولكن لوقت قصير وسط تراجع كبير في الإقبال”.
عدا عن التعاونيات، فإنّ مختلف المصالح التجاريّة والحرفيّة منتشرة في عيترون، وكلّها كانت تشكّل عوامل جذب نحو البلدة. إلّا أنّ غالبية هذه المصالح أغلقت أبوابها بعد نزوح أصحابها قسرًا خشية الاستهدافات الإسرائيليّة التي لا تفرّق بين مدنيّ وآخر.
حال عيترون اليوم نموذج عن أحوال باقي القرى والبلدات الحدوديّة، التي رحل سكّانها عنها قسرًا. أغلقوا أبواب منازلهم ودفاتر ذكرياتهم ومصادر رزقهم، وراحوا نحو مناطق ربّما لا يعرفون أكثر من اسمها. خسائر أبناء عيترون وتجّارها المادّيّة اليوم تقدّر بملايين الدولارات، بينما لا تقدر الخسائر المعنوية بثمن.
إنّها حرب همجيّة، إلّا أنّ أصحاب الأرض يصرّون على أنّهم عائدون لا محالة، كي يزرعوا حقولهم من جديد لأنّ الأرض لهم، ويفتحوا أبواب متاجرهم ومصانعهم، ويسعوا إلى بناء ما تهدّم لأنّ ثقافة الحياة عندهم مستمدّة من ذاكرتهم الغنيّة بالعنفوان، وأراضيهم التي أزهرت مع الربيع اليوم شقائق نعمان وحبًّا لا يوصف.