غاليري نور بلّوق في كفرجوز الجنوب يكسر المركزيّة الثقافيّة

في محلّة كفرجوز، خاصرة مدينة النبطية من ناحيتها الشماليّة الغربيّة، وتتبع عقاريًّا لها، افتتحت الفنّانة التشكيليّة نور بلّوق منذ فترة “غاليري” فنيًا يحمل اسمها. من حيث الشكل، يبدو المكان صالة عرض فنّيّة عاديّة؛ أمّا من حيث المضمون، فهو فعل سياسي- ثقافيّ، يفتح أفقًا جديدًا في النضال من أجل اللامركزيّة الثقافيّة والمقاومة الجماليّة. وفي وقت لا يزال الجنوب يرزح تحت وطأة حرب تهدف إلى تفكيك الذاكرة الجماعيّة، يأتي هذا المشروع ليعلن أنّ الجنوب ما زال قادرًا على إنتاج جماله الحرّ، وفنّه الحرّ، وخطابه الحرّة أيضًا.
في الجنوب مئات “الكاراجات” و”الملاحم” والأفران، وآلاف المحال التجاريّة والصناعيّة المتوسّطة والبسيطة، بالمقابل لا يوجد سوى بعض الأندية الثقافيّة، التي لا يمكنها تلبية كامل القدرات الإبداعيّة لأبناء الجنوب بوصفهم قلب وجذوة الحركة الثقافيّة في العاصمة، من شعر وصحافة ورسم وأدب ومسرح وكلّ ما يتّصل بالأبداع.
رفض المركزيّة الثقافيّة
تقول نور بلّوق لـ “مناطق نت”: “إنّ المعركة اليوم لا تجري على الحدود وحسب، بل في الوعي والذاكرة والرموز. حين نرسم ونكتب ونُغنّي، فنحن لا نُجمّل الواقع فقط، بل نُعيد صياغته ونواجه كلّ مشروع يُحاول تفكيكنا من الداخل”.

غاليري نور بلّوق تجسيد حيّ لرفض المركزيّة الثقافيّة التي طالما اختزلت الفنّ والثقافة في بيروت. إنّ نقلَ صالة عرض فنّيّ إلى أحد أحياء النبطية، كفرجوز، الواقع على هامش الجغرافيا الرسميّة، هو رفض واضح للمعادلة القديمة: “الثقافة تسكن المدن”. بلّوق، التي درست وعرضت أعمالها في الخارج، اختارت أن تعود إلى بلدة طفولتها لا لتعتزل، بل لتؤسّس.
“لماذا نحتاج إلى الانتقال إلى العاصمة كي نحصل على اعتراف ثقافيّ؟ لماذا لا نزرع المساحات هنا، في الجنوب، حيث الحياة والفنّ والناس؟” تسأل بلّوق.
إنّ تأسيس هذا الغاليري ليس فعلًا فنّيًّا وحسب، بل رؤية ثقافيّة كاملة، مفادها أنّ الهويّة لا تُصاغ في العواصم فقط، بل من الأطراف أيضًا، من المدن القصيّة والريف والقرى والحدود.
منبر للفنّانين الجنوبيّين
لا يكتفي الغاليري بعرض أعمال نور بلّوق وحدها، بل يفتح أبوابه للفنانين المحلّيّين، ويعمل على تنظيم ورش عمل ومعارض جماعيّة وحوارات مفتوحة. في الجنوب اللبنانيّ اليوم ثمة عشرات الرسّامين والنحّاتين والمصوّرين ممّن لا تقل تجاربهم نضجًا عن زملائهم في العاصمة، لكنّهم محرومون من المنابر والدعم المؤسّسيّ. لقد ظلّت المواهب الجنوبيّة تتوارى خلف ضجيج المركز، وها هو هذا الفضاء الثقافيّ يعيد تسليط الضوء على هذه الطاقات، ويمنحها مكانها الطبيعيّ في المشهد الفنّيّ اللبنانيّ.
بلّوق: رسالتي أن أخلق مساحة لهؤلاء. الغاليري ليس مشروعًا شخصيًّا، بل نواة لمشروع أكبر يحتضن الأصوات الفنّيّة المقاومة
تشير بلّوق إلى أنّ “رسالتي أن أخلق مساحة لهؤلاء. الغاليري ليس مشروعًا شخصيًّا، بل نواة لمشروع أكبر يحتضن الأصوات الفنّيّة المقاومة”.
مقاومة التطبيع بالخيال والرؤية
في زمن تُطبّع فيه الاتفاقيّات والوجوه والشاشات، يغدو الفنّ مساحة للمواجهة. الفنّ المقاوم لا يرفع الشعارات فقط، إنّما يُعيد رسم الأسئلة، ويحفر في الذاكرة، ويُعيد الاعتبار لما هو “محلّيّ”، “شعبيّ”، و”وطنيّ”. أمام سيل المحتوى العالميّ المعلّب، يغدو الغاليري في كفرجوز جبهة دفاع عن الجمال المحلّيّ، عن الريف، عن الأغنية التراثيّة، عن الوجوه البنّيّة واللهجة الجنوبيّة والنقوش المتوارثة.
في هذا الإطار تقول بلّوق: “لا يكفينا أن نقول لا للتطبيع. علينا أن نقول نعم لفنّنا، لهويّتنا، لثقافتنا. علينا أن نبني البديل. الفنّ ليس رفاهيّة، بل ضرورة استراتيجيّة”.
مستقبل الجنوب الثقافيّ
غاليري نور بلّوق هو بداية، لا نهاية. هو نداء لكل فنّان ومثقّف لبنانيّ- أينما كان- كي يُعيد التفكير في تموضعه، في جمهوره، في خطابه. الجنوب لم يعد فقط منطقة جغرافيّة؛ إنّه رؤية ثقافيّة أخلاقيّة، قادرة على أن تجمع بين الذاكرة والابتكار، بين الجذور والآفاق.
في كفرجوز، تُزرع اليوم بذرة لمشروع ثقافيّ مستقلّ، جذريّ، عضويّ، يمكن أن يتمدّد إلى النبطية، بنت جبيل، صور، الخيام، ومرجعيون، وأن يُنتج شبكة من الغاليريات والمنتديات والمراسم والمكتبات، التي تُعيد إلى الجنوب دوره الطبيعي: مركز إشعاع حضاريّ يليق بأبنائه ويعيد تكريم روّاده من أمثال عبد الحميد بعلبكي ومحمّد علي شمس الدين وحسن جوني وغيرهم من كبار الفنّانين التشكيليّين في الجنوب.
ولا بأس من أن تلتفت وزارة الثقافة إلى مثل هذه المبادرات الفرديّة وتدعمها بكلّ الوسائل المتاحة أمامها لخلق الأنتماء بين المركز والأطراف الذي يصبّ في ترسيخ أبناء القرى في مناطقهم وقراهم ما يدعم فكرة الأنماء المتوازن.