قلوبهم على غزّة.. فلسطينيّو مخيّمات صور ومرارة التهجير
قلوب اللاجئين الفلسطينيّين وعيونُهم، في مخيّمات منطقة صور (جنوب لبنان)، الأقرب جغرافيًّا إلى الساحل الفلسطينيّ، دائماً مع غزّة الجريحة. ولا يفوتهم يوماً، هم الذين هُجِّروا إلى المنطقة، بعد نكبة العام 1948 ونكسة حزيران 1967، من دون فعاليّة للتضامن مع أبناء جلدتهم، وخصوصاً “الغزّاويّين” منهم، ممّن لهم أقارب في داخل قطاع غزّة، فينشدون العودة التي لا تغادر تفكيرهم ولهفتهم، من جيل إلى جيل.
في منطقة صور، يتوزّع الفلسطينيّون، الذين هجّروا من ديارهم قسراً، في ثلاثة مخيّمات رئيسيّة، أُنشئت على أرض تابعة للدولة اللبنانيّة، وهي: الرشيديّة، البصّ والبرج الشمالي، إلى جانب تجمّعات: جلّ البحر، المعشوق، القاسميّة، الواسطة، أبو الأسود والشبريحا، ويقارب عددهم الإجماليّ ستّين ألفاً، وتتداخل هذه المخيّمات والتجمّعات مع النسيج اللبنانيّ إلى أقصى الحدود، ومنها الزواج والمصاهرة.
الرشيديّة “أرحب” المخيّمات
ينقسم مخيّم الرشيديّة، الواقع عند شاطيء محميّة صور الطبيعيّة، ويقطنه أكثر من عشرين ألف لاجيء فلسطينيّ هُجّر آباؤهم وأجدادهم من أراضي العام 1948، وأعدادٌ قليلة من الغزاوييّين (نسبة إلى غزّة)، إلى قسمين: القديم والجديد. وقد تمّ بناء القسم القديم من قبل الحكومة الفرنسيّة في العام 1936 لإيواء اللّاجئين الأرمن الذين فرّوا إلى لبنان، ووصلوا إلى صور بحراً.
وقامت “الأونروا” ببناء القسم الجديد في العام 1963، لإيواء اللّاجئين الفلسطينيّين ممّن جرى إجلاؤهم من مخيّم “غورواد” في منطقة بعلبك في لبنان. معظم سكّان هذا المخيّم ينحدرون أصلاً من بلدة دير القاسي وعلما النهر والقرى الأخرى في شمال فلسطين.
يقيمون على مساحة ضيّقة من الأرض، حيث تتكدّس المنازل في أحياء وأزقّة، وبرغم ذلك يُعتبر المخيّم من أرحب مخيّمات لبنان، نظراً إلى موقعه على شاطيء المتوسّط، ومساحة الأرض المضاعفة عن سائر المخيّمات؛ ويعمل سكّانه في الزراعة، حيث يستثمر عدد كبير من الأهالي الأرض الخصبة في سهل “الجفتلك” ومياه ينابيع رأس العين.
مخيّم البرج الشماليّ
يعتبر مخيّم البرج الشماليّ ثاني أكبر المخيّمات الفلسطينيّة في منطقة صور، يقع على بعد ثلاثة كيلومترات شرقيّ المدينة (صور)، ويتجاوز قاطنوه ستة عشر ألف نسمة، يقيمون على مساحة كيلومتر مربّع واحد.
في العام 1955، أنشئ مخيّم البرج الشماليّ، الذي يقيم فيه كذلك أكثر من ثلاثة آلاف لبنانيّ من أبناء منطقة سهل الحولة (في فلسطين المحتلّة) ممّن استفادوا من إستعادة جنسيّتهم اللبنانيّة، ضمن مرسوم التجنيس سنة 1993.
أشرف على تأسيس المخيّم مديره الأوّل الحاج نايف عَزّام “أبو جمال”، وتنتسب غالبيّة عائلات المخيّم إلى بلدات: اللوبيا وصفّوريه والزّوق التحتاني والزوق الفوقاني وجوار سهل الحولة والناعمة والخالصة والمنصورة وشفا عمر وسعسع والكساير وحطّين ومعلول والجاعونة وديشوم والحسينيّة والدامون وغيرها.
لقد شهد مخيّم البرج الشماليّ، على مجازر إسرائيليّة، تحديداً في العام 1982، حيث سقط أكثر من مئة ضحيّة من المدنييّن، بعد قصف الطيران الإسرائيليّ بيوتهم، وكان معظمها من الصفيح و”التنك”.
التهجير من فلسطين ومن مخيّم إلى مخيّم
في كتابه “لوبيا، درّة من درر الجليل” يروي المربّي الراحل علي نوف كيف أنّ “أهالي لوبيا خرجوا من البلدة، بعد منتصف تمّوز العام 1948، بعدما أشار عليهم “جيش الإنقاذ العربيّ” إخلاء بلدتهم، كي يتسنّى له الدفاع عنها، ومواجهة العصابات الصهيونيّة”.
ويقول: “إنّ الأهالي الخارجين من لوبيا، إلى مدينة بنت جبيل في جنوب لبنان، سلكوا طرقات نمرين والمغار وعيلبون. وفي بنت جبيل مكثوا في كروم الزيتون، وبقيوا هناك إلى أن نزل المطر في تشرين، حيث نقلتهم سيّارات لبنانيّة إلى منطقة عنجر، التي أمضينا فيها سبع سنوات، كانت فيها الحياة صعبة، فقد سكنت كلّ عائلة في غرفة دون شبابيك وأبواب، حيث كنّا نضع الخيش والبطانيّات، بسبب البرد القارس، في ظلّ غياب وسائل التدفئة”.
ويتابع نوف: “في السنة الدراسيّة 1955- 1956 دخلتُ إلى الصفّ الأوّل متوسّط في مدرسة عنجر، ولكنّنا لم نبقَ هناك، بل نقلتنا وكالة غوث اللاجئين (الأنروا) إلى خيام في البرج الشماليّ، على أثر مشكلة وقعت بين فلسطينيّي عنجر والأرمن الذين كانو يسكنون المخيّم قبلنا بعدّة سنوات، ولم يكن حينها في مخيّم البرج الشمالي صفّ تكميليّ”.
ويختم:”فدخلت في مدرسة الأنروا في مخيّم البصّ بجوار مدينة صور، وكنّا نحن التلامذة نذهب إلى المدرسة مشياً على الأقدام أو على درّاجة هوائية للمقتدرين، وكان ثمنها في ذلك الوقت عشرين ليرة لبنانيّة”.
مخيّم البصّ
يلاصق مخيّم البصّ مدينة صور، حيث تتداخل المحال والمؤسّسات، وحتّى بعض المنازل، ويقع على أرضه “مستشفى صور الحكوميّ”.
كانت الحكومة الفرنسيّة، قد قامت في الأساس ببناء المخيّم في العام 1939، بهدف إيواء الأرمن، الذين هُجّروا من أرمينيا إلى لبنان، في أثناء الحرب العالميّة الثانية.
وبعد مرور أقلّ من عشر سنوات، جاء اللاجئون الفلسطينيّون، من منطقة عكّا في الجليل إلى البصّ، في عقد الخمسينيّات، ليسكنوا هذه البيوت المبنيّة من الإسمنت، مكان الأرمن، الذين لم يبقَ منهم إلى الآن سوى ثلاثة أفراد، بعدما كانوا يُعدّون بالآلاف.
الغابسيّة والشيخ داوود ودنون
يشير محمّد حسن عبد العال، أبن قرية الغابسيّة في قضاء عكّا، وهو أمين سرّ اللجنة الفلسطينيّة للثقافة والتراث في لبنان، إلى أنّ التاريخ لم يشهد قطّ قصّة حقيقيّة أو خياليّة مثل قصّة الشعب الفلسطينيّ المظلوم.
وينقل في كتاب “باقيات ما بقينا، الغابسيّة، الشيخ داوود والشيخ دنون”، عن حسن محمود الشولي: “من الشيخ داوود لجأ مع والده وعائلته، في العام 1948 إلى بلدة بيت ليف في جنوب لبنان، التي سبقها تهجير محلّيّ من الشيخ داوود إلى قرية عمقا داخل فلسطين، وعند لجوئنا إلى بيت ليف، كان بحوزتنا بقرة وعجل وحمار وبعض الأمتعة التي تيسّر حملها”.
ويتابع:”بعد أربعة أشهر أمضيناها في خيمة من الخشب في بيت ليف، وصلت أخبار عن مخيّم للّاجئين في البرج الشماليّ فانتقلنا إليه، وحالفنا الحظّ بالحصول على خيمة تشاركناها مع ثلاث عائلات أخرى، وما أن أغربت الشمس حتّى هطل المطر وسقط الشادر علينا وبتنا تلك الليلة على فراش مبلّلة، وفي صباح اليوم التالي أنتقلنا إلى بلدة قانا وبتنا تلك الليلة على البيادر، بعدها انتقلنا إلى بلدة الرماديّة المجاورة فاستاجرنا غرفة بمبلغ خمسة جنيهات فلسطينيّة في الشهر”.
ويضيف الشولي: “بعد سنة ونصف إنتقلنا إلى مخيّم البصّ للّاجئين قرب صور، الذي كان يسكنه اللّاجئون الأرمن، وقمنا ببناء غرفة من حجارة (اللّبْن) وقد مكثنا في هذا المخيّم حتّى العام 1956، حيث طلبت الحكومة اللبنانيّة من الأنروا نقل اللّاجئين إلى مخيّم الرشيديّة، الذي سبقنا إليه بسنوات الأرمن أيضاً، ولم نزل هنا، إلى حين العودة إلى بيوتنا الأصليّة في فلسطين”.
وتروي فهدة خالد مصطفى شميسي في الكتاب عينه، وهي من قرية الغابسيّة، كيف هوجمت الغابسيّة “عند آذان الفجر بفرقتين من العصابات الصهيونيّة، واحدة من الغرب وأخرى من الشمال، وبدأوا بإطلاق النار في كلّ اتّجاه، فتركنا بيوتنا والتجأنا إلى الحقول. وبعد غروب الشمس توجّهنا إلى قرية ترشيحا قاصدين بعض الأقارب، حيث بتنا فيها ليلة واحدة، ثم اضطررنا لمغادرتها مع أهلها بعد تعرّضها للقصف والهجوم. خرجنا بعدها إلى الدير وأمضينا ليلة فيها تحت أشجار التين، بعدها انتقلنا إلى بلدة يارين في جنوب لبنان وبقينا فيها خمسة عشر يوماً لدى اقاربنا”.
فهدة شميسي: هوجمت الغابسيّة عند آذان الفجر بفرقتين من العصابات الصهيونيّة، واحدة من الغرب وأخرى من الشمال، وبدأوا بإطلاق النار في كلّ اتّجاه، فتركنا بيوتنا والتجأنا إلى الحقول.
وتضيف فهدة في رواية التهجير: “عدنا من يارين مرّة أخرى إلى فلسطين، وتحديداً قرية (بركا)، وثمّ مجدّداً إلى قرية الدير في فلسطين، وبقينا هناك في كروم التين لأربعة أشهر، حيث ولّدت ابني علي، قبل يوم من هربنا إلى بلدة رميش في لبنان، ومنها إلى بلدة جويّا، وثمّ إلى البصّ، فالبرج الشماليّ، حيث حصلنا على خيمة، إلى أن استقرّ بنا المطاف في تجمّع المعشوق قرب البرج الشماليّ”.
لا يزال الجرح الفلسطينيّ مفتوحاً، إذ لا يندمل إلّا بالعودة إلى فلسطين، إلى الديار والحقول المزروعة شوقاً إلى أربابها. لا يزال الجرح الفلسطينيّ مفتوحاً على غزّة النازفة من وحشيّة العدوّ المحتلّ، الذي يمعن فيها دماراً ليس من اليوم والأمس القريب فحسب، بل من سنوات طويلة، إذ يسجن أهلها في ضيق مساحة المكان والزمان، يقطّر عليهم الغذاء والخدمات والعمل وحتى الهواء.
والعالم يراقب مثل عادته، نكبة أبناء غزّة وفلسطين المستمرّة منذ 75 عاماً، من دون أن يرفّ لإنسانيّته “المدّعاة” جفن. وحدهم الفلسطينيّون، في الداخل المحتلّ وفي مخيّمات الشتات يتجرّعون المرارة والوجع وأعينهم على المقاومة التي بنضالها المستمرّ ستستعيد الأرض والحرّيّة والكرامة.