مجلة العرفان العاملية لأحمد عارف الزين.. وسيلة نهوض وإصلاح

أُطلق على الشيخ أحمد عارف الزين (1960 – 1884) مسمى “صاحب العرفان”، لتكريسه حياته لهذه المجلة الطليعية في زمانها، وقد تحمّل الحبس والتشريد لأمانته لأفكاره. ويُقر له بالفضل والريادة، والإخلاص لما آمن به وكرس له سنيّ عمره في سبيل بلده وأمته، وتم تكريمه في العام 1951 في مهرجان كبير في صيدا احتفاء بيوبيله الذهبي.

نشأ الشيخ في بيئة مشبعة بالثقافة العاملية كبقية أقرانه الأدباء، لكن قاعدته كانت في صيدا، حيث أدى دوراً بارزاً في حياة المدينة الثقافية في أوائل القرن العشرين. إتّبع في تعليمه مسار أترابه الآخرين فيها: تعلم في المدرسة “الرشدية” الرسمية في صيدا. ثم ما لبث أن التحق بمدارس النبطية الابتدائية الدينية. وكان من أساتذته آنذاك، محمد جابر آل صفا والشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر.

وفي مرحلة ما، ارتأى والده، ضرورة تلقيه التعليم الديني، حيث درس أثناءها الفلسفة والمنطق والصرف والنحو. مارس الشيخ مهنة الصحافة، فكان يكتب في العام 1896 في “ثمرات الفنون”، ومن ثم في “الإتحاد العثماني”، وفي “حديقة الأخبار” وأدى دور المراسل لها في صيدا. وكانت مقالاته موجهة ضد الزعماء الإستبداديين وناقدة للموظفين الفاسدين في الإدارة، ومدافعة عن المنادين بالحرية المطالبين بالدستور. وجاء إقرار الدستور العثماني في العام 1908، ليشيّع مناخاً من الحريات، ومنها حرية التعبير.

صورة تجمع الشيخ أحمد عارف الزين، صدر الدين شرف الدين، نزار ابن الشيخ احمد رضا، محمد مهدي الجواهري في منزل الشيخ أحمد رضا في مدينة النبطية عام 1951 (الصورة من أرشيف علي مزرعاني)
التأسيس والعدد الأول

وفي شباط من العام 1909، بادر الشيخ الى تأسيس مجلة العرفان كـ”ثمرة من ثمرات” الدستور، والتي رغب أن تكون ناطقة بلسان الشيعة، وأيضاً كوسيلة تساهم في مشروع الإصلاح، إذ كان للصحافة كما للمدارس دورها في هذا الشأن.

فظهر العدد الأول من المجلة في 5 شباط من العام 1909، وعلى غلافه نقرأ “مجلة علمية، أدبية، أخلاقية، إجتماعية”. وكتب يقول:” منشىء هذه المجلة منذ نعومة أظفاره، وهو يتشوق لانشاء صحيفة يتمكن بها من خدمة أمته ووطنه ـ إذ كل امرىء ميسّر لما خلق له ـ والآن وقد قيض الله ما نتمناه. والأمور مرهونة باوقاتها، فأنشأنا هذه المجلة على اعتراف منا بالعجز والتقصير ودعوناها العرفان ولكـل مسمى من إسمه نصيب”.

ظهر العدد الأول من المجلة في 5 شباط من العام 1909، وعلى غلافه نقرأ “مجلة علمية، أدبية، أخلاقية، إجتماعية”. وكتب يقول:” منشىء هذه المجلة منذ نعومة أظفاره، وهو يتشوق لانشاء صحيفة يتمكن بها من خدمة أمته ووطنه

وفي فاتحة المجلد الثاني الصادر في العام 1910، يقول: “غايتنا التي نرمي اليها، وخطتنا التي نسير عليها، نشر العلم  والأدب، وتقويم الاخلاق وتطهير النفوس من الأرجاس، والخوض في غمرات المباحث الاجتماعية والعمرانية”. وفي موضع آخر صرّح الشيخ إن الباعث على إنشائها هو “الميل الغريزي للصحافة وحب خدمة الوطن والأمة”.

وحظيت المجلة بتأييد من العلماء والمجتهدين الذين سخروا أقلامهم لرفدها بمقالاتهم، ومنهم السيدين عبد الحسين شرف الدين ومحسن الأمين. وقد صرح الشيخ الزين في احدى مقالاته في تشرين الاول من العام 1911، أي في سنتها الثالثة، قائلاً: “منذ ثلاث سنين انصرفت إلى إنشاء هذه المجلة (العرفان) لأني رأيت الوطن في حاجة ماسة إلى ذلك. وخصوصًا الطائفة الشيعية، فإنه لم يكن لها آنئذ صحيفة خاصة تنشر بها اعتقاداتها الصحيحة وآراء علمائها وكتابها الصريحة وتترجم مشاهير رجالها وتدفع ما يقوله الجاهلون عنها”.

الشيخ أحمد عارف الزين مع العاملين في مطبعة “العرفان” (الصورة من مدونة جبل عاملة)

ولم توقف المجلة نفسها على الخوض في المسائل العاملية الصرف فحسب، بل فتحت الباب واسعاً للإنفتاح على العالم ومجرياته، وشاركت أقلام عربية كبيرة في الكتابة فيها، وعبرت صفحاتها عن حال الأمة وتطلعاتها.

وقد وضعت العرفان لنفسها أهدافاً في زمن نشأتها الأولى حافظت عليها هي:
– توحيد الأديان اجتماعياً.
– كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
– توحيد الجزيرة العربية وجميع الناطقين بالضاد.
– نبذ التعصب الذميم ، ونشر التسامح إلى أبعد مدى.
– محاربة المفرقيّن بين مسلمين ومسيحيين لا سيما المقلنسين والمعممين.

وجبل عامل كان جزءاً من خطة المجلة، أي النهوض به، وربطه بتراثه وإقامة الصلات بينه وبين الأقطار العربية والاسلامية.

واذا أمكن للإصلاحيين أن ينشروا ويدافعوا عن أفكارهم فذلك بفضل مجلة العرفان، كما تقول الباحثة الفرنسية، صارينا ميرفن، في كتابها “الإصلاح الشيعي” (2000)، والذي هو في الأصل أطروحتها للدكتوراه. وكان نازع الشيخ الوطن لا الطائفة، فرفع شعار التسامح الديني ونبذ التعصب الذميم، ورأى أن الأخطار الداخليـة والخارجية لا تستهدف دينا أو مذهباً دون آخر.

وانطلاقاً من هذا الايمان الراسخ بالتآلف الوطني دعا في إحدى مقالاته، أبناء قومه ووطنه وجنسه “من موسـويين ومسيحيين ومسلمين إلى دين الوطنية”، وطالبهم بطرح رداء الشقاق وثوب النفاق و”الانضواء تحت علم الوطن المقدس”، لأننا “بحاجة ماسة إلى الصراحة والتفاهم، إلى التعارف والتآلف، إلى نبذ التحاسد والتباغض، إلى الاقتداء بغيرنا من الشعوب والأمم”.

قالوا في “العرفان”

رأى الدكتور أيوب حميد، كاتب “الشيخ أحمد عارف الزين، مؤسس مجلة العرفان” (1986)، إن المجلة في رحلتها المديدة تركت أثراً مدوياً في كل قطر وصلته (العراق، سوريا، شمال أفريقيا، وبعض البلدان الإسلامية، وبلاد إنتشار اللبنانيين)، مقربة بين القلوب، داعية للمعرفة، هادفة للخير والصلاح.

بدوره اعتبر المؤرخ اللبناني، الدكتور وجيه كوثراني، إنّ مجلّة “العرفان” في ليبراليّتها الجنينيّة وانفتاحها وتعدّد الأقلام والاتّجاهات فيها، كانت لحظة تحدٍّ، تحقّقَ فيها محاولةُ تجاوزٍ لواقع، ومحاولةُ إطلاق أفكار لتغيير “حاضر بائس” وبناء “مستقبل واعد”. إنّها محاولة انتقال من “الهامش إلى المتن”، من متلقٍّ للثقافة إلى منتج فيها. ويضيف إن اللافت في العرفان اختلافها وتميّزها عن أخواتها كـ”المنار” و”المقتطف”(الصادرتين في مصر)، بتنوّع الأبواب وتعدّد الاتجاهات والتوجّهات، فهي ليست مجلّة ذات توجّه إسلاميّ غالب كـ”المنار”، وليست مجلّة علميّة خالصة كـ”المقتطف”. لقد حاولت العرفان عبر مؤسّسها أن تجمع وتؤلّف بين الاهتمام بالثقافة العلميّة والاهتمام بالإصلاحيّة الدينيّة، وبينهما حقلٌ واسعٌ من الاهتمامات بالسياسات المدنيّة والمسلكيّات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والتربويّة، ناهيك بمروحة الأدب، شِعراً ونثراً وقصّة.

اعتبر المؤرخ اللبناني، الدكتور وجيه كوثراني، إنّ مجلّة “العرفان” في ليبراليّتها الجنينيّة وانفتاحها وتعدّد الأقلام والاتّجاهات فيها، كانت لحظة تحدٍّ، تحقّقَ فيها محاولةُ تجاوزٍ لواقع، ومحاولةُ إطلاق أفكار لتغيير “حاضر بائس” وبناء “مستقبل واعد”

وفي المقام الأخير، تتساءل حفيدة الشيخ، رغدة النحاس، في خاتمة كتابها “أحمد عارف الزين، رائد إصلاحي من جبل عامل”(2014): “ونحن في أوائل القرن الواحد والعشرين: ما هو أثر هذا التيّار الإصلاحيّ العامّ الذي انتمى إليه الزين؟ وهل تخطّت الحركة الإصلاحيّة والتحديثيّة العربيّة الإطار الذي رسمه الإصلاحيّون أوائل القرن العشرين من حيث الإشكالات التي طرحوها والحلول التي قدّموها؟”. ويبقى السؤال مطروحاُ برسم النهضويين الجدد ومشاريعهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى