محسن فتوني خطّاط الدستور اللبنانيّ برتبة فارس
خطّ بالفحم أولى لوحاته على ذاك الجدار التابع للمستشفى الفرنسيّ، في الخندق الغميق. طفل في التاسعة من عمره، يكتب ويكتب حتّى تمتلئ جداريته التي تزيد على خمسين مترًا، ثم يأتي الشتاء عامرًا بالمطر فيغسل كلّ ما كتب، تمامًا مثل ممحاة تزيل الطبشور عن لوح الصفّ في المدرسة. فرصة الطفل محسن، أن يعود إلى هوايته التي دمغت حياته بأكملها، حتّى نال وسام الأرز من رتبة فارس، في العام 2003.
ولد محسن فتوني في العام 1933، مثل نقطة في فراغ النون. تراكَم مع الوقت، وعاظم تجاربه، ليجمع النقاط مثل خرزات في سبّحة العمر. إنها مسيرة خطّاط أصيل، وربّما أصوليّ، لم يعر اهتمامًا لتلك اللوحات الخطّيّة التي سمّيّت بـ “الحروفية”، فيقول إنّها لم تضف إلى الخط العربي زيادة. هو لا يؤمن برسم الحرف من دون أن يؤدّي إلى معنى، على عكس فلسفة “الحروفيّة” التي ترى في كلّ حرف عمقًا، ودلالة، وانسيابًا بصريًّا، مثلما يحتفي الصوفيّ بالحروف ذاتها لذاتها.
كاتب الموسوعة وشخصيّة الخط
ينحدر فتوني من بلدة “بافليه” الجنوبيّة، قضاء صور، وعاش ثنائيّة الريف والمدينة، مثل ثنائيّة الأبجديّة في اللوحة الخطّيّة، حيث الاحتشاد، ثمّ الرقص الحرّ لحرف بذاته، خالقًا رئة يتنفّس عبرها الحبر، “الحبر الذي أستعمله يمكنني القول إنّه يعيش ألوف السنين. أقوم بصنعه في منزلي، وكذلك يمكن تعبيد الورق باستخدام أدوات تجعله صالحًا لكتابة اللوحات. بتجاربي الخاصّة واحتياجاتي إلى أن يكون الحبر معبّرًا عن ذاتيّتي كنت أعدّل بعض تكويناته لتصبح ملائمة لما أريده”، يقول فتوني الذي كتب “موسوعة الخطّ العربيّ” في جزئين، هي اليوم من نفائس الكتب في هذا العالم الذي كان ضرورة لمئات السنين.
يغدو الفنان الموسوعيّ اليوم، على هامش الهامش، ضحيّة الكمبيوتر، مثل كثير من المجالات التي نسفتها التكنولوجيا. يقول: “الكمبيوتر لا يعمّر الخط. عمله محدود على هذا المستوى، لو اقتصر استخدامه على كتابة الحروف بحرف 12 أو أصغر أو حتى 16 (بونطًا)، لكن الأمر أفضل. الكمبيوتر يخدمنا بالسرعة، لكنّه لا يخدم الفن، بل يدمره” يقول فتوني.
ويضيف: “العامل الاقتصادي وراء كلّ ذلك. إذا كتبنا بطاقة عرس بواسطة الكمبيوتر وأخرى بيد الخطّاط، نجد الفرق واضحًا وجليًّا، وواضح أيّهما الأفضل. في كتابي الذي أعدّه للطباعة، سأظهر بالصورة الواضحة الفرق الهائل بين رداءة خطّ الكمبيوتر وعظمة خطّ اليد. وأعطي مثلا على ذلك، لو أردنا خطّ كلمة “الأمّ” بمقاس (5 ×39سم) هل يمكن للكمبيوتر أن ينفّذ ذلك؟ بالطبع لا، لكنّ الخطاط يعطي ذلك بأسهل ما يكون، وبشكل أنيق. ولننظر اليوم إلى الصحافة، فكلّها متشابهة بالحرف، إنّما قبل الكمبيوتر كانت لكلّ صحيفة شخصيّة تميّزها عن سائر الصحف، هي شخصيّة الخط”.
خطّاط الزمن الذهبيّ
قبيل الغزو التكنولوجيّ، كانت الصحافة تعتمد على الخطّاطين في كتابة عناوينها، من المانشيت الأولى إلى آخر خبر من الصفحة الأخيرة. عالَم بأسره تهاوى عند أواخر الثمانينيّات، وبداية التسعينيّات، ليذهب الخطاطون إلى بيوتهم، بعدما كانوا أسياد ميادينهم.
قبيل الغزو التكنولوجيّ، كانت الصحافة تعتمد على الخطّاطين في كتابة عناوينها، من المانشيت الأولى إلى آخر خبر من الصفحة الأخيرة. عالَم بأسره تهاوى عند أواخر الثمانينيّات، وبداية التسعينيّات، ليذهب الخطاطون إلى بيوتهم
كان محسن فتوني من هؤلاء الذين أعادوا القصبة إلى غمدها قبيل “الانهيار”، إنّما لأسباب أخرى، اذ استبق ازمة الخطّاطين الكبرى قبل تظهرها، ليعود ويستلّ القصبة نحو باقي الخامات الفنّيّة، ويكون خطّاطًا وفيًّا لماهيّة الخطّ وجماليّته، وليس فقط لوظيفته.
يسرد فتوني رحلته بين الصحف فيقول: “أوّل دخولي إلى الصحافة كان في جريدة “الروّاد” كخطّاط، في العام 1948، ثمّ جريدة “اليوم” التي كان يملكها النقيب الراحل عفيف الطيبي. ثمّ عملت في مجلّة “الجمهور الجديد” التي كان يملكها النقيب الراحل فريد أبو شهلا، إلى جريدة “الرفان” التي كان يملكها النقيب الراحل روبير أبيلّا، بعدها جريدة “الكفاح العربيّ” التي كان يملكها النقيب الراحل رياض طه، وكذلك جريدة “المحرّر” التي كان يملكها النقيب الراحل هشام أبو ظهر، فجريدة “الحياة” التي كان يملكها الراحل كامل مروة، ناهيك بصحف أخرى”.
كان الزمن زمن الخطّ والصحافة، ويعتبره فتوني الزمن الذهبيّ للصحافة اللبنانيّة، التي انجبل بها، وتغمّست صفحاتها بدواته، وقد عرف كيف يخطّ النصوص العظيمة أيضًا، مثل لوحته الشهيرة للدستور اللبنانيّ.
الدستور بخطّ واحد
قبيل رحيله بسنوات قليلة، قام محسن فتوني بكتابة الدستور اللبنانيّ المؤلّف من 21 صفحة على لوحة من الكرتون، يبلغ طولها 55 سنتيمترًا وعرضها 18 سنتيمترًا وتفصل بين السطر والآخر مسافة لا تتجاوز ثلاثة أرباع المليمتر الواحد، بحيث يصعب على المرء قراءة الكلمات المكتوبة بخطّ الرقعة.
هكذا تحدّى ذاته، متعملقًا لصناعة هذا الإنجاز الذي نقل نصّ الدستور على سطح واحد، بجماليّة عالية. إنّه انجاز وطنيّ، لا نعرف عنه شيء اليوم، ولم تذكره الصحافة سوى في ذلك اليوم الذي جرى تكريمه فيه في قصر الاونيسكو، برعاية رئيس الجمهورية إميل لحود (بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر 2003)، ثمّ لا حسّ ولا خبر. الخيبة الأكبر هو تغييب فتوني، وغيره من الخطاطين اللبنانيّين عن عملية التأريخ للفنون اللبنانيّة، والإبداعات التي صنعت ركائز هذا الوطن.
إنجازات القصبة
نال ابن بافليه دبلوم الخطّ العربيّ من مصر في العام 1965 مشفوعًا بشهادة امتياز، والتي تمنح فقط لمن يحوز المرتبة الأولى، ثمّ تكرّر دخوله مباراة الخطّ العربي لنيل دبلوم التخصّص في الخطّ والزخرفة والتذهيب، ونال معه أيضًا شهادة امتياز.
وكان قد حاز هاتين الشهادتين بعدما طلبت وزارة المعارف اللبنانيّة من زميلتها وزارة التعليم العالي في مصر تسهيل دخول فتوني لتقديم امتحان الشهادتين المذكورتين. وهو اشترك في تركيا، في العام 1986، باسم لبنان في دورة حامد الآمدي، حيث حاز تهنئة من المركز الإسلاميّ.
وتكرّر ذلك في المهرجان الدوليّ الذي أقيم في طهران في العام 1997، وكان يشارك فيه أكثر من 1500 خطّاط من مختلف أنحاء العالم، حيث ربح إحدى الجوائز العشر الأولى، وتمّ اعتباره عضوًا فخريًّا في نقابة الخطّاطين الإيرانيّين، ثمّ نال دبلوم شرف بفوز إحدى لوحاته ونصّها “يقيني بالله يقيني”، والتي ازدانت بأسماء الله الحسنى كضرب من الزخرفة، وهي بالخط الديواني الجليّ.
صدمة بصرية
يقول: “سافرت إلى مصر في العام 1962 حيث طلبت من الخطّاط سيّد ابراهيم أن يرشدني إلى الأماكن التي تحوي خطوطًا ومخطوطات. فزرت الكتب خانة بناء على إرشاده، وهناك صعقت عندما رأيت إحدى اللوحات لرئيس الخطّاطين محمد عبد العزيز الرفاعي، وكانت لوحة طولها 5,1 أمتار وعرضها مترًا واحدًا، وكانت تحوي جميع أنواع الخطوط. وعندما رأيت هذه اللوحة أصبت بذهول شديد، وكدت أتوقّف عن كتابة الخطّ، وأعلمت زوجتي بذلك، وسألتني: أوأنت تعبد الخط عبادة؟ قلت: وهل أنا خطّاط أمام هذا الخطّ الذي أرى؟”.
يحكي فتوني عن انطباعه، وما اختلج في صدره، ليتابع: “عانيت من ذلك مدّة سبعة أشهر قضيتها وأنا أصارع نفسي، حول ترك الخطّ أو الاستمرار به، لأنّ اللوحة التي رأيتها كان الرفاعي قد كتبها ليجيزه أستاذه ممارسة الخطّ، لأنّ العرف عند الخطّاطين ينصّ على أنّه لا يحقّ للخطّاط ان يوقّع ما يكتبه إلّا إذا أجيز من أستاذه”. من حسن الحظّ أن فتوني تابع مساره حذاء القصبة، باصمًا بحرفه، وموقّعًا أينما حلّت كلماته، إلى أن جاء توقيع ملاك الموت في أواخر أيلول من العام 2017.