“محطّة العريس” لمحمّد محسن… حكاية بيروت وسرديتها الضائعة

تكمن إحدى الميزات المهمّة للسيرة الذاتيّة، في سعي كاتبها لبعث الحياة في مادّة، تكوّنت من عبور إنسان ما في هذه الحياة الدنيا، راغبًا في أن يستردّ ما كان بمثابة الروح والجسد والمشاعر، ويصوغ منها صورة ذلك الإنسان العابر.

تعتبر “محطّة العريس سيرة مفتّش ومدينة، حكاية بيروت الضائعة» الصادرة عن دار النهار 2023، خميرة ما تركه حسن، بطل المذكّرات، من صور التقطها على مدى سنين طويلة، وتسجيلات وملاحظات كان قد دوّنها مع تواريخ حدوثها، خلال حياته في بيروت، ليتولّى ولده محمّد، الأستاذ الجامعيّ في كلّيّة الإعلام وعميد معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة، إخراجها بصيغة السيرة الذاتيّة، المكتوبة بأقلام الغير، إلى النور. هكذا نحن، في «محطّة العريس»، أمام سيرة مشغولة بتقنيّات إنثروبّولوجيّة، الذاكرة فيها أساس ومستند.

محطّات عمر

تتخطّى «محطّة العريس» كونها محطّة لقطار، على خطّ منطقة البسطة في بيروت، تقتصر وظيفته على نقل الناس من مكان إلى آخر، وإن كانت لا تزال أثرًا قائمًا حتّى يومنا هذا. بل إنّها تكتسب رمزيّتها، في السيرة، كإحدى المحطّات المتعدّدة التي شكّلت حياة حسن الشخصيّة، التي امتدّت في المدينة، أكثر من ثمانين سنة، من 1929 وحتى 2012.

أولى المحطّات في حياة حسن، كانت ظهيرة يوم وصل فيه إلى بيروت، قادمًا من بلدته الجنوبيّة، لينضمّ إلى العمل مع أخيه إبراهيم، في مهنة بيع الحلويّات.

يضعنا هذا المشهد أمام سؤال جدّي: كيف لوافد من القرية إلى بيروت، في ثلاثينيّات القرن العشرين المنصرم، أن ينجو من سطوة هذه المدينة، وهو لم يتمّ بعد العاشرة من عمره؟

حسن الولد اليافع، الذي راح آنذاك يجول كلّ يوم في أحياء المدينة، وشوارعها وأزقّتها، حاملًا الحلويّات على مسطح خشبيّ، مناديًا بأعلى صوته «عسل يا شعيبيّات»، حسن هذا وقع في سحر بيروت، حيث الفروقات بينها وبين قريته لا تقاس بالكيلومترات فحسب، مندفعًا إلى كلّ ما فيها، محمولًا بعزم وأحلام وطموح.

أيقونة شعبيّة

ينطوي الزمن، وتتوالى المحطّات، وحسن حاضر في المدينة، والمدينة حاضرة في سيرة حسن. هو الذي أحبّها، ووثّق ذاكرتها، وصوّر كلّ ما وقعت عيناه عليه فيها. حفظها عن ظهر قلب، وأراد أن يبقى فيها، ويكون واحدًا من أبنائها.

تنقّل حسن في عدد من المهن، قبل أن يحقّق حلمه بالالتحاق بسلك التحرّيّ. شكّل له ذلك أمانًا وظيفيًّا واستقرارًا مادّيًّا، مكّناه من الزواج وتكوين أسرة، وشراء منزل وسيّارة، والعيش برغد وفق مقاييس ذلك الزمن.

ينطوي الزمن، وتتوالى المحطّات، وحسن حاضر في المدينة، والمدينة حاضرة في سيرة حسن. هو الذي أحبّها، ووثّق ذاكرتها، وصوّر كلّ ما وقعت عيناه عليه فيها.

كانت وظيفة حسن في سلك التحرّيّ، من أكثر محطّات حياته تجربة وخبرة، تنقّل خلالها في عدد من المناطق والمخافر، بين بيروت وطرابلس، وكانت له صولات وجولات، نال في أثرها عدّة ترقيات وميداليّات وتهانٍ. أنصف خلالها مرّات، كما لحق به الغبن أيضًا مرّات عديدة.

هي بيروت، التي كسب فيها حسن ودّ الأصدقاء والمجتمع من حوله. كان في كلّ ذلك مرموقًا ومقدامًا وطيّب السمعة، جعله ذلك، في محلّة سيدي حسن في البسطة الفوقا، حيث عاش، «أيقونة شعبيّة».

منعطفات الوافدين

ترصد «محطّة العريس»، في جزء منها، حياة الوافدين من القرى إلى بيروت، منذ ثلاثينيّات القرن العشرين الفائت، وفي حقبات لاحقة. يوضح هذا الرصد الكثير عن هجرتهم، التي لم تكن طوعيّة، بقدر ما كانت قسريّة، إذ كانت القرى، في ذلك الزمن، تفتقر إلى أدنى مقوّمات الصمود والعيش، لا مدارس ولا مياهًا ولا كهرباء ولا مستشفيّات، ولا دعمًا للمزارعين. كان النزوح هو الخيار الوحيد، لفئة واسعة من أبناء الأرياف وخصوصًا الجنوبيّين منهم.

رصد حياة الوافدين في السيرة، يلقي ضوءًا على العلاقات القرابيّة، التي كانت تلعب دورًا مهمًّا في اجتماعهم وتضامنهم وتسهيل أعمال بعضهم البعض. المنازل آنذاك كانت مفتوحة لكلّ وافد منهم. ها هو حسن، يفد من القرية، ليقيم عند ابنة عمّ والده صفيّة في بيروت، التي تعامله وترعاه كابن لها.

ترصد «محطّة العريس»، في جزء منها، حياة الوافدين من القرى إلى بيروت، منذ ثلاثينيّات القرن العشرين الفائت، وفي حقبات لاحقة. يوضح هذا الرصد الكثير عن هجرتهم، التي لم تكن طوعيّة، بقدر ما كانت قسريّة، إذ كانت القرى، في ذلك الزمن، تفتقر إلى أدنى مقوّمات الصمود والعيش

لم تكن تحوّلات المدينة، تحصل بمعزل عن كلّ من يعيش فيها، وما تلحظه السيرة، يجسّد التأثيرات المتبادلة العميقة بين بيروت والوافدين اليها من الأرياف. هؤلاء الذين عملوا في مهن، لم تكن كلّها «تحظى بالاحترام»، وفق ما ورد في السيرة، كان نصيب الأمّيّين منهم العمل كماسحي أحذية، عتّالين على البّور، ناقلي بضائع من السوق إلى منازل المشترين، جامعي نفايات، حرّاس ليليّين، بائعين متجوّلين، فيما حظي من كانوا منهم قد نالوا عند شيخ القرية ما يمكنهم من القراءة والكتابة، بأعمال أفضل، من بينها إداريّة بسيطة او الانتساب إلى سلك الدرك، وغيرها من الأعمال التي لا تتطلّب كفاءة علميّة.

يعكس حراك الوافدين في المدينة، المنعطفات الهامّة التي أرستها في حياتهم. فقد انكبّوا على تعليم أولادهم في المدارس الرسميّة المجّانيّة، التي كانت تؤمّنها لهم بيروت آنذاك. هذا الحراك الذي اتّسع لاحقًا، وتنظّم في جمعيّات، كانت من بينها «الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة العامليّة»، بأهدافها التنمويّة الثقافيّة الاجتماعيّة، وذات الطابع الخيريّ، والتي كان حسن، بطل السيرة أحد مؤسّسيها. اهتمّت الجمعيّة بمساعدة الفقراء من أبناء القرى، كما اهتمّت بتوفير فرص عمل للمحتاجين، ومنح تخصّص إلى الخارج للمتميّزين منهم.

السيرة كراصد لأحوال للمدينة

تعود أهمّيّة السيرة وميزتها، وفق جاك لوغوف، إلى أنّها رصدٌ شموليّ للواقع، يردّ فيه السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والدينيّ، بما يتّصل بدراسة الجماعات والهويّات. «محطّة العريس»، تعكس في صميمها التحوّلات الكثيفة التي شهدتها بيروت، في معظم مرافقها، ابتداءً من النهضة العمرانيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في ستينيّات القرن العشرين الفائت، حيث جرى التركيز على القطاع السياحيّ، فازدهرت الملاهي والنوادي الليليّة والكازينوهات على حساب قطاعات أخرى، هذا الازدهار الذي ظهرت هشاشته، في إفلاس بنك انترا ( في العام 1965) وكان لحسن نصيب منه، في خسارته ما أودع فيه من جنى العمر. وما أشبه اليوم بالبارحة!

وسط بيروت خمسينيات القرن الماضي

وما تعكسه، السيرة أيضًا، البيئة التقليديّة المحافظة التي تربّى فيها حسن، من خلال انتقاده ما كان يحصل في الملاهي الليليّة، من تجاوزات و«موبقات»، وهو رجل الأمن الذي كان يندفع إلى تطبيق القانون، ناهرًا المخلّين به، عارفًا الظروف التي أوصلتهم إلى ارتكاب الفحشاء، البعيدة من الأعراف والمنافية للتقاليد الاجتماعيّة التي تربّى عليها.

تأخذنا «محطّة العريس»، إلى عدد من الأحداث السياسيّة، من بينها ثورة 1958، بأسبابها وتبعاتها، التي كان لحسن نصيب منها، عندما قام عدد من الشباب بخطفه، تحت تهديد السلاح، بتهمة نقل المعلومات إلى الطرف المعادي. كما كان لحسن موقف من الإضرابات، التي قام بها عمّال شركة الترامواي، على خلفيّة مطالبهم بتحسين أوضاعهم، فكان منحازًا لمطالب الفقراء، وإلى جانبهم.

الخيال المتجسّد في واقع

يحسب قارىء «محطّة العريس»، في جوانب منها، برغم أحداثها الواقعيّة، أنّه أمام رواية تاريخيّة أو أحد الأفلام البوليسيّة التي نشاهدها في السينما. نقرأ عن المهمّات الكثيرة، التي كانت توكل لحسن في سلك التحرّيّ، ومن بينها رصد وتقصّي تجّار المخدّرات، وملاحقة عصابات السرقة، ومروّجي الدعارة والقمار، وغيرهم من الخارجين على القانون. «الزئبق الأحمر» و«العنكبوت» «البترونة»، هي ألقاب أطلقت على بعض هؤلاء.

ما يعزز مشهد الفيلم البوليسيّ، في السيرة، المطاردات التي كانت تحصل بين العصابات ورجال التحرّيّ، ويُستخدم فيها السلاحان الأبيض والأميريّ. كان نصيب حسن، في إحداها رصاصة في الرأس لم تمته، إنّما بقي يعاني من تأثيراتها، طيلة حياته. نقرأ أيضًا عن حادثة أخرى كادت تودي بحياة زوجة حسن وأولاده، حين دسّت لهم «البترونة»، إحدى أكبر تجّار المخدّرات في ذلك الزمن، السمّ في الطعام، موهمة زوجته، أنّ حسن أرسله لها من أحد المطاعم.

يحسب قارىء “محطّة العريس”، أنّه أمام رواية تاريخيّة أو أحد الأفلام البوليسيّة التي نشاهدها في السينما. نقرأ عن المهمّات الكثيرة، التي كانت توكل لحسن في سلك التحرّيّ، ومن بينها رصد وتقصّي تجّار المخدّرات، وملاحقة عصابات السرقة، ومروّجي الدعارة والقمار، وغيرهم من الخارجين على القانون.

في جانب آخر، تأخذنا سيرة حسن، من خلال العلاقة التي كانت تربطه بفاطمة، إلى قصص الحبّ العذريّ، التي نقرأ عنها في كتب التاريخ. هذان العاشقان مُنع زواجهما، وراح كلّ منهما في سبيله، سنوات طويلة مرّت، عاد حسن، بعد أن فقد زوجته، إلى فاطمة، التي ما زال يكنّ لها حبًّا في قلبه. كانت هي أيضًا قد فقدت زوجها، إلّا أنّ الموت يقف حائلًا بينهما، ففي اللحظة التي دخل فيها حسن إلى المستشفى حاملًا باقة الورد ليقدّمها إلى فاطمة، كانت هي قد ودّعت الحياة.

المدينة والذاكرة

تضعنا «محطّة العريس»، في كثافة أحداثها، أمام تلازم الشخصيّ مع العام. حيث يساهم من يعيشون في المدينة في صنع تاريخها، كما تساهم المدينة في صنع تاريخ الأفراد. مثلما هي حال حسن الذي عشق المدينة، وانكبّ على تسجيل احداثها وصورها وتواريخها، وانغرس فيها أكثر من ثمانين سنة. لم يرد حسن أن يبقى وافدًا أو مواطنًا فحسب، بل أراد، أن يكون منها وفيها، أراد أن يكون «بيروتيًّا».

نحن هكذا، أمام سيرة فرد داخل مدينة، وسيرة مدينة من خلال معيش فرد. هي في عمقها حكاية آلاف الوافدين، الذين كان لكلّ واحد منهم قصّة في بيروت، وكان نصيب حسن أنّ قصّته رأت النور في «محطّة العريس» عبر ابنه محمّد الذي أعاد كتابتها، فيما بقيت آلاف قصص الوافدين، في انفسهم وذاكرتهم.

حكاية حسن في بيروت، هي حكاية بيروت عبر الزمن، وعبر التاريخ. صورة لم تعد موجودة في عالمنا اليوم، لكنّها تذكار لكلّ من عرفها وعاش فيها، وأراد أن يستعيدها فكتب عنها، كما فعل بطل السيرة حسن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى