“معموديّة” التبغ في رميش وعيترون.. ماذا عن الزراعات البديلة؟

منذ ثلاثة أسابيع ينهمك المزارعون في القرى والبلدات الجنوبية وخصوصًا تلك التي لديها حيثية “تبغية” بزراعة التبغ إيذانًا ببدء الموسم. ويبدو واضحًا للعيان أثناء التجوال في تلك القرى والبلدات ورش المزارعين وهي تنتشر في الحقول مع مستلزمات الزرع وهي عديدة.

لطالما شكّلت شتلة التّبغ مصدر الرزق “المر” والوحيد لآلاف العائلات الجنوبيّة التي تتخذ من قرى الخط الحدودي مسكناً وموطناً لها. هناك وفي بداية موسم زراعة التبغ تسرح العائلات في الحقول وبين الشتول مستعدّين لبداية الموسم وعملية الحصاد الشاقة.

يعود تاريخ زراعة التبغ إلى عهد الأمير فخر الدين. في حين كان لبنان تحت الإنتداب، أدرك الفرنسيون أهمية هذا القطاع، فشجّعوا هذه الزراعة في الأرياف البعيدة. وقد انطلقت من الجنوب، امتدادًا إلى مناطق أخرى. وأهم تلك المناطق الّتي عُرفَت بجودة إنتاجها، هي تلك التي تقع في قضاءي بنت جبيل ومرجعيون، حيث طبيعة الأرض الملائمة والمناخ والخبرة الطويلة.
لقمة العيش “المرّة”

زراعة التبغ في بلدة عدشيت الجنوبية (الصورة كامل جابر)

“لا زلت أذكر كيف كان بعض أصدقائي في المرحلة الإبتدائية والثانوية يتغيبون لأيام عن متابعة الدروس لمشاركة عائلاتهم في موسم “الدخان”، فبدون الموسم يصبح حلم الدراسة أشقى من الزراعة نفسها. وبالنسبة للأشقاء والشقيقات، فكانوا “يتداورون” بين الحضور في الصف والحضور في الحقل” تقول مريم ابنة بنت جبيل.

لم يقتصر رزق الموسم على تأمين الطعام والحاجات الأساسية، بل استطاع أن يؤسس بيوتاً ويبني مستقبلاً لآلاف العائلات، بل وخرّج طلاباً بشهادات عليا واختصاصات معقدة ودقيقة أكثر من عمليّة زراعة شتلة التبغ.

هي زراعة عائلية مدتها أربعة عشر شهراً، تمتد بين زراعة البذور ثم قلع الشتول وغرسها في الأراضي المخصصة، فعملية القطاف، الشك، التصفير، التجفيف، التبسيط، التضنيك، الرزم، فالبيع.

لطالما كانت “لقمة” العيش لمزارعي التبغ “مرّة” بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث أنّ أوراقه تفرز مادة لزجة سوداء شديدة المرورة تلتصق بالأيدي ويصعب إزالتها، وكثيراً ما يضطر العاملون في القطاف والشك إلى تناول شيء من الطعام من دون أن يتسنى لهم تنظيف أيديهم جيداً، ما يجعل المرّ جزءاً من اللقمة.

لطالما كانت “لقمة” العيش لمزارعي التبغ “مرّة”، حيث أنّ أوراقه تفرز مادة لزجة سوداء شديدة المرورة تلتصق بالأيدي ويصعب إزالتها، وكثيراً ما يضطر العاملون في القطاف والشك إلى تناول شيء من الطعام من دون أن يتسنى لهم تنظيف أيديهم جيداً

الكبير والصغير و”حتى المقمّط بالسرير” له حصة من التعب في سبيل الحصول على رزق السنة، فبعض الأمهات كن ولا زلن يحملن صغارهنّ الرضّع للحقل، حيث تضعنهم في السيارة أو في الظل. هؤلاء الأطفال تعلموا منذ الصغر كيف يكون الصبر على شكل شتلة، وأنّ الخبز لا يُشترى بالقليل.

المشهد واحد في مختلف الحقول والقرى، طابور يمتد وقبعات تعتلي الرؤوس، نساء ورجال وأطفال، لا تمييز بين أحد إنّما مساواة لا تستطيع أكبر الجمعيات والجماعات تحقيقها. الجميع يأكل ويتعلم ويكبر من تعبه وشقائه.

الأزمة تعصف بشتلات التّبغ

لم تستطع عاصفة الأزمة في السنوات الأخيرة أن تشيح بوجهها عن زراعة التبغ، بل كان تأثيرها مضنيًا بسبب ارتفاع الأكلاف بشكل جنوني.

فوفق إحصائية لـ “الوكالة الوطنية للإعلام” عن تكاليف الزراعة، تبين أنّ كيس السماد الكيماوي بلغ سعره 70 دولاراً وضمان الدونم الواحد 300 ألف ليرة وحراثته 500 ألف وجرار المياه 700 ألف وأجرة “السقا” في الورشة مليون ليرة يومياً، والغليل 800 ألف، ورمي البوج 500 ألف، مع العلم أنّ الحراثة للدونم يجب أن تحدث ثلاث مرات قبل الزراعة وتحتاج الى كيسَي سماد كيماوي وثلاثة صهاريج مياه.

التبغ بعد نشره وتجفيفه

إلا أنّ لشتلة التبغ دلالة معنوية كبيرة لدى الجنوبيين، فليست زراعة يكسبون رزقهم منها فحسب، بل عنوان كبير لصمودهم وتمسكهم وثباتهم بأرضهم رغم كل ما مرّ عليها. يبلغ عدد المزارعين الجنوبيين 17 ألف عائلة، أمّا مساحة الأراضي المزروعة تبغًا فتبلغ مساحتها 50 ألف دونم.

ورغم أنّ هذه الزّراعة لم تعد “تجيب همها” بحسب شهادة الكثيرين، خاصّة أنّ الجهة الوحيدة المخولة لشراء المحصول هي “الريجي” التي تأسست في عام ١٩٣٦ من القرن الماضي، بقي عدد كبير من الأهالي متمسكًّا بشتلة التبغ تلك، معتبرًا أنّ التخلي عنها يعني التخلي عن الأرض. إلا أنّه في المقابل، عمد بعضهم، إلى التخلي عمّا يؤذيهم ويضنيهم، فبدؤوا بزراعات بديلة بتعب أقل ومنفعة أكبر، مثل الزعتر البري والقمح والعنب.

التبغ في عيترون ورميش، حكاية صمود

تُعد عيترون ورميش من أكبر القرى التي يزرع أهلها التبغ، حيث بدأت هذه الزراعة منذ الثلاثينات. كيفما اتجهت في تلك البلدات، سترى حقولاً تفيض بالخير، غطاء أخضر يبشر بموسم جديد. تأثرت هذه الزراعة بعدة عوامل، أبرزها الاحتلال الاسرائيلي، حتى بعد التحرير بقي تأثيره على المزارعين سلبياً بحيث أنّهم تعرّضوا مراراً لمضايقات وترهيب، إلا أنّ لسان الحال “يا جبل ما يهزك ريح”.

حقول التبغ في بلدة رميش الحدودية

يعتمد أهالي القريتين بشكل أساسي على مواسم التبغ، فهي تلعب دوراً رئيسياً في تحريك الدورة الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. يقول رئيس بلدية عيترون سليم مراد، في حديث لـ “مناطق.نت”، أنّ عيترون هي البلدة الأولى في لبنان من حيث زراعة التبغ، ويشير إلى وجود حوالي 900 مزارع في البلدة إلا أنّه في السنوات الأخيرة بقي ما يقارب 40% منهم فقط، ليعود ويرتفع عددهم إلى حوالي 60% في السنة الأخيرة.

ويشدّد على أنّ الأزمة الاقتصادية أثرت بشكل كبير على المزارعين، خصوصاً لناحية إشراكهم عمال للمساعدة في المهمة، فبات المزارع يعتمد على نفسه وعائلته فقط لكي يخفض من الأكلاف ولكي يبقى له ما تيسر من الربح. “لا الوظيفة وحدها تكفي، ولا زراعة الدخان، لذلك لا بدّ من الجمع بينهما”، يقول مراد موصفًا الحال.

رميش وتليها عيترون، من ناحية المساحات المزروعة وعدد المزارعين. فقد ساهمت تربتها الخصبة والمناخ المناسب و”همّة” الأهالي بخلق مرتبة للبلدة على الصعيد الزراعي. هي تابعة لقضاء بنت جبيل، وتمتد بمحاذاة الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية بعدما كانت تابعة لمديرية تبنين من قضاء صور في عهد الاستعمار الفرنسي. يحدّ البلدة من الجنوب فلسطين ومن الشمال قرية عين إبل، ومن الشرق والشمال الشرقي بلدة يارون، ومن الغرب بلدة عيتا الشعب. واحدة من القرى التي ما زال أهلها يمتهنون زراعة التبغ، فلا زالت مساحاتها الزراعية تغطيها شتول التبغ ويرويها عرق المزارعين.

كانت الزراعة في رميش كما في القرى الأخرى، بدائية. تعتمد على حراثة الحيوانات، ووسائل النقل الشائكة، وعلى الوسائل القديمة لجر المياه، كما أنّ الأسمدة الزراعية لم تكن متوفرة كما هو اليوم. عانى المزارعون طويلاً على عكس اليوم، فقد تغيرت الزراعة وتوفرت الجرارات الزراعية وتطورت وسائل الري وتأمنت معظم التسهيلات، لكن بالمقابل باتت التكاليف باهظة. من جهة ساهمت بالعمران وتحريك العجلة الاقتصادية، إلا أنّها أتعبتهم و”قصرت” أعمارهم.

“أيام يقضيها الناس في الصقيع وفي الحر، يتعاملون مع شتلة التبغ ويتحملون أوزارها دون معرفة الراحة والإطمئنان”، يقول طوني العلم، أحد المزارعين الذين ورثوا هذه المهنة أباً عن جد وأورثوها لأودلاهم، في حديثه لـ “مناطق.نت”.

الوجهة نحو زراعات بديلة

رغم أنّ الريجي رفعت سعر الكيلو و”دولرته”، إلا أنّ عدداً لا بأس به من المزارعين أعلن استسلامه وتخليه عن التعب، وبعضهم اتجه نحو زراعات بديلة.

في حديث رئيس اتحاد مزارعي التبغ والتنباك في لبنان “حسن فقيه” مع “مناطق نت”، يلفت إلى أنّ الجنوب كان يسلّم خمسة ملايين كيلو، إلا أنّه في السنتين الأخيرتين سلم حوالي مليون ونصف المليون فقط، مشيراً إلى أنّه لم يعد بمقدور أحد أن يزرع ويتعب ليخسر في النهاية.

الجنوب كان يسلّم خمسة ملايين كيلو من التبغ، إلا أنّه في السنتين الأخيرتين سلم حوالي مليون ونصف فقط،

وأكّد أنّه طالب بأن يسعَّر الكيلو بـ 10$ لهذا الموسم، سيما أنّ الريجي تحقق أرباحا مهمة. وعن الزراعات البلدية، أشار إلى أنّ بعض الجمعيات دعمت زراعة الزعتر، حيث أنّها قدمت أراضٍ وتسهيلات، ولكنها محدودة. ويشير في المقابل أنّ بعض الزراعات البديلة وخصوصاً العطرية ليس لها مجال إنتاجي أو صناعي في لبنان، مما يصعّب مهمة التخلي بشكل كامل عن زراعة التبغ، وخصوصاً أنّ الناس تعرف التبغ وتعرف تقنياته “بالوراثة” وهم ليسوا بحاجة لأي تعليم أو تدريب.

وفي رحلة البحث عمن اتخذ من الزعتر بديلاً، يروي عاطف منصوري ابن بلدة عيترون رحلة التعب مع التبغ لـ “مناطق.نت”: “بس اتذكر بقول قديش المرحوم بيي كان جبّار ليبقى بهالأرض، بيفصل بين أرضنا وفلسطين الألغام بس”، ويتابع منصوري مستذكراً طفولته التي مضت منذ أكثر من أربعين عاماً، التي كان للتبغ الحصة الأكبر منها.

إلا أنّ الأزمة الأخيرة أجبرت هذا المزارع المتأصل على البحث عن بديل أقل كلفة وتعبًا ووقتًا، فبدأ وصديقه في العام 2018 بزراعة الزعتر البري، معتمدين على الطريقة البعليّة هرباً من التكاليف التي لم يعد باستطاعتهما تحملها وأوّلها الري. وبعد نجاح التجربة، وسّعا المساحات فباتا يزرعان حوالي 10 دونمات، ويتراوح كيلو الزعتر بين الثمانية والعشرة دولارات. وفي مقارنة مع الدخان، يشير منصوري إلى الفارق في أنّ “تصريف” التبغ مضمون 100%، بينما الزعتر يبقى حسب السوق، إلا أنّه في جميع النقاط الأخرى يبقى الأخير أقل همّاً.

هل يكون الصعتر بديلاً لزراعة التبغ

ويلفت إلى أنّه على المدى الطويل، وبحال تحسنت الأسعار ودُعمت زراعة التبغ بشكل جيد، فإنّ الناس حتماً ستعود إليها ولأيام “عزّها” لأنّهم “بالنهاية فلاحين” وهذه شتلة خبزهم وعلمهم وثباتهم.

أما في رميش، فقليل من اتجه نحو الزعتر وكثير ذهب نحو سنابل القمح وعناقيد العنب. إلا أنّ أحد مزاعي البلدة يؤكد أنّه لا بديل عن شتلة التبغ، فزراعة الحبوب كالقمح والعدس والشعير لا تعطي مردوداً يُذكر.

هناك، في آخر الجنوب، ولو أتيت في آخر زمن أو موسم، سترى الصغير يساند الكبير، أيادٍ ناعمة وأخرى قضت عبر الزمن تقطف أوراقاً كانت السبيل الوحيد يوماً للورقة والقلم والكلمة، تناغمها من أسفل إلى أعلى لتحصد زهرة الجنوب المرة. هناك “المنطعجي” تسانده “الغلالة”، ويلحق بهم “الطمام”، لترسم وحدها دون الحاجة إلى فنان لوحة لا تبهت، شكّلت حقبة مغمسة بالتعب من تاريخ القرى الحدودية، إلا أنّها “ربّت رجال وعملت بيوت وكبّرت الأولاد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى