وادي التَّيم لرمزي الراسي الجنوب كمرآة لحكايا الوطن

في زمن تتكاثر فيه الحكايات المتفرّقة، ويضيع فيه الصوت المحلّيّ أمام الضجيج العالميّ، يأتي الفيلم الوثائقيّ “وادي التَّيم” للمخرج اللبنانيّ رمزي سلام الراسي ليعيد الاعتبار إلى صوت الجبل، إلى الحجر الذي يحفظ التاريخ، وإلى المكان الذي يختزن الحكايات المنسيّة. “وادي التيم” ليس مجرّد فيلم عن منطقة منسيّة في الجنوب اللبنانيّ، بل هو تأمّل عميق في علاقة الإنسان بالمكان، وفي الطريقة التي تتحوّل بها الجغرافيا إلى هويّة، والهويّة إلى ذاكرة.

بين الكاميرا والذاكرة

ينتمي المخرج رمزي سلام الراسي إلى عائلة أدبيّة وثقافيّة عريقة في لبنان، وهو نجل الأديب الشعبيّ الراحل سلام الراسي (1911–2003)، الذي عرف بكتاباته الساخرة والمليئة بالحكمة الشعبيّة. في بيئة أدبيّة كهذه نشأ الراسي الابن، متأثّرًا بمناخ فكريّ يحتفي بالكلمة والحكاية، وقد اختار أن ينقل هذا الإرث من الورق إلى الصورة، ومن الحبر إلى الضوء.

أعماله الوثائقيّة تركّز بشكل أساسيّ على الهوامش، على الأصوات الصغيرة التي تصنع المعنى الأكبر، وعلى المساحات التي غالبًا ما يتمّ تجاهلها في المشهد الثقافيّ والإعلاميّ اللبنانيّ. بأسلوبه المتأنّي والبصريّ، يسبر رمزي الراسي أغوار الأمكنة، لا بوصفه مجرّد مشاهد أو مخرج، بل كمن يحاور المكان ويستفهمه.

في “وادي التيم”، يبدو الراسي وكأنّه يعود إلى جذوره، ليس كرحلة فنّيّة وحسب، بل كحاجة شخصيّة للبحث عن الذات في تضاريس الطفولة، وفي ملامح الجبل الذي شكّل وجدانه الثقافيّ والروحيّ.

من عرض وثائقي “وادي التّيم” لرمزي الراسي
الجغرافيا ككائن حيّ

يقع وادي التيم في الجنوب الشرقيّ من لبنان، عند السفوح الغربيّة لجبل الشيخ، على تخوم الحدود مع الجولان السوريّ المحتلّ، وفي مرمى العين من فلسطين الشماليّة. يمتدّ الوادي بين منطقتي راشيّا وحاصبيّا، ويتضمّن مجموعة من القرى والبلدات أبرزها: حاصبيا، كفرشوبا، الهبّارية، شبعا، كفرحمام، والماري.

تتّسم طبيعة الوادي بالجمال القاسي، فهو مزيج من الانحدارات الجبليّة، والغابات الصنوبريّة، والينابيع الدافقة. المناخ الجبلي القاسي في الشتاء، والمعتدل في الصيف، جعل منه بيئة صالحة للزراعة والرعي، وأكسب أهله طبائع الصلابة والتكيّف.

في الفيلم، تُقدَّم الجغرافيا ككائن حي وليس كخلفية، يتنفّس ويئنّ، ويتحوّل إلى شاهد على مراحل التحوّل التي مرّت بها المنطقة، من القرون الوسطى حتّى يومنا هذا.

يعيد الفيلم حياكة الأحداث عبر الصور والأصوات والأغاني والأطلال وليس كوقائع جافة، جاعلًا من التاريخ مادّة بصريّة وشعريّة.

ديموغرافيا التعدّد والتعايش

يشتهر وادي التيم بتنوّعه الطائفيّ والمذهبيّ، إذ تقطنه الطائفة الدرزية بشكل أساسيّ، إلى جانب حضور تاريخيّ مهمّ للطائفة المسيحيّة، ووجود بارز للطائفة السنّيّة في بعض القرى الجنوبيّة.

هذا التعدّد ساهم في تكوين نسيج اجتماعي غنيّ ومركّب إذ لم يكن مجرد تعايش جغرافي. في بعض قرى الوادي، تتجاور الكنائس والمساجد، وتتعاقب المناسبات الدينيّة المختلفة على الساحة نفسها. غير أنّ هذا التعدّد أيضًا كان عُرضة للتوترات، لا سيّما خلال فترات الحرب الأهليّة، إذ لم يسلم الوادي من تداعيات الانقسام الوطنيّ والصراعات الإقليميّة.

يعكس الفيلم هذا التعدّد كجزء أصيل من هوية المكان ويعيد طرح أسئلة قديمة حول معنى الانتماء في بلد تعدّدي مثل لبنان.

من الأمويّين إلى المقاومة

يحمل الوادي اسمه من قبيلة تيم الله، وهي قبيلة عربيّة كانت تقطن المنطقة خلال الفتح الإسلاميّ. تاريخيًا، لعب وادي التيم دورًا سياسيًّا ودينيًّا مهمًّا في التاريخ الإسلاميّ، إذ يُعتبر أحد معاقل الدروز الأوائل في جبل الشيخ. عُرف الوادي بتحالفاته المعقّدة مع الدولة الفاطميّة لاحقًا، وبكونه منطقة نفوذ لعديد من الأمراء المحلّيّين، وبخاصّة خلال العهد العثمانيّ.

في مطلع القرن العشرين، أصبح وادي التيم مركزًا للحراك السياسيّ والاجتماعيّ، فشهد انتفاضات ضدّ الحكم العثمانيّ، ورفضًا للانتداب الفرنسيّ لاحقًا. وفي العقود الأخيرة، برز دوره كخطّ تماس مع الاحتلال الإسرائيليّ، وبخاصّة في بلدات مثل شبعا وكفرشوبا، اللتين ظلّتا محطّ نزاع طويل حول السيادة اللبنانيّة عليهما.

يعيد الفيلم حياكة الأحداث عبر الصور والأصوات والأغاني والأطلال وليس كوقائع جافة، جاعلًا من التاريخ مادّة بصريّة وشعريّة.

تأمّل بصريّ وحنين حذر

يعتمد “وادي التيم” على إيقاع بطيء ومدروس، يتيح للمشاهد أن يتنفّس مع الصور، ويصغي للهمسات القادمة من بين الجبال. خفيف صوت الراوي ومقابلات مع نحو ٥٠ شخصيّة في أبواب خمسة، تتناثر الشهادات والمشاهد مثل قطع فسيفساء، تكتمل تدريجًا لتشكّل لوحة ذات طابع تأمّليّ عميق.

الموسيقى المستخدمة في الفيلم تميل إلى البساطة والشجن، فيما تتعمّد الكاميرا الوقوف مطوّلًا عند تفاصيل مهملة: باب خشبيّ مهترئ، شجرة زيتون معمّرة، عين ماء تجري بصمت… هذه اللغة البصريّة الحيّة، تجعل من الفيلم تجربة شعوريّة بقدر ما هو سرد معلوماتيّ.

الوادي مرآة الوطن

“وادي التيم” وعلى رغم سقوطه في الطوباويّة فهو ليس مجرّد فيلم وثائقيّ، بل هو عمل يعيدنا إلى سؤال مركزيّ: ماذا يحدث عندما ننظر إلى الوطن من هوامشه؟ حين نبتعد عن المركز السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ، ونتأمّل في الأطراف، في القرى المعلّقة على الجبال، في الأصوات الخافتة التي لا تجد من يصغي إليها؟

في زمن يتهدّد فيه الوطن بالتمزّق، يقدّم رمزي سلام الراسي في “وادي التيم” درسًا في الإنصات، ويذكّرنا بأنّ للجنوب وجهًا آخر، أقلّ صخبًا، لكنّه أكثر صدقًا. وجه الجبل، والصمت، والحنين وشخصيّات ملأت العالم كالدكتور مايكل دبغي والأديبة إملي نصرالله وشيخ الأدب الشعبيّ سلام الراسي والصحافي راجح الخوري وشقيقه الدكتور نسيم شفيق الخوري والدكتور شفيق البقاعي ومقاومين لا مجال لذكرهم بالأسماء.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى