13 نيسان الحرب بين نشرات الأخبار وأبو ملحم
من أسبوع إلى أسبوع، كان الشغف يعتصرنا بانتظار تلك الحلقة اليتيمة من مسلسل “يسعد مساكم”، الذي سمّيناه على اسم بطله “أبو ملحم”، حتى نسينا أنّ للمسلسل اسمًا آخر تذكره مذيعة ربط الفقرات على شاشة تلفزيون لبنان.
صغارًا كنّا، تستوقفنا البصريّات المختلفة، مثل الزيّ الفلكلوريّ للفنّان أديب حدّاد، طربوشه وشرواله، كما شاربيه الأبيضين. الحبكات بسيطة نستطيع استيعابها، وحلوله لتلك المشاكل كانت بالبساطة ذاتها، فيتوب المخطئون عند نهايات الحلقات قافزين بدقائق من عالم الشرّ إلى عالم الخير، بكلمات قليلات من ذلك الرجل العجوز (البالغ 63 عاماً في حينه) الذي ينطق كلماته بثقة، كأنّه يقرأ عليهم تعويذة سحريّة حاسمة.
كان الأمر ليبدو عاديًا لولا أنّ ذلك الانتصار على الشرّ كان يجري في بلد تلتهمه القذائف العشوائيّة، وتقطع أوصاله الحواجز الحزبيّة، ضمن حفلة تكاذب سياسيّة تحتلّ نشرة الأخبار على الشاشة عينها التي تقدّم “أبو ملحم”، فعشنا خمس عشرة سنة (1975- 1990) من التناقض المفجع بين نشرة الأخبار (بما فيها من مجازر وعمليات خطف واقتحامات)، وباقي البرامج التي تقدمها “القنال سبعة”، حيث المحبّة والتسامح والكوميديا البيضاء.
رسائل بربر آغا
نجح تلفزيون الدولة بلعِب دور الأب المصلح، بل والناقد، تحديدًا في مسلسل “بربر آغا” المبنيّ على أحداث حقيقيّة في مرحلة ما من تاريخ لبنان، بقلم أنطوان غندور، الذي حمّل نصّه رسائل مبطّنة ضدّ الزعامات، والحزازات (الحساسيّات) وأمزجة الحكّام ونبذ العنف، إنّما في قالب كوميديّ داكن، بأداء مميّز من الفنّان أنطوان كرباج الذي لعِب دور الشاب الداهية، القوّي والبوهيميّ، الذي يتعارك مع الأقدار ولا تفارق الابتسامة محيّاه.
لن ننسى أغنية البرنامج الخلّابة بصوت وألحان زكي ناصيف، مع البداية المختلفة من وقع أقدام الخيل، وكأنّها نبضات القلب قبل سماعنا للصرخة: “بربر آآآآآآغا”، لتندلع الموسيقى الموشّاة بالإيقاعات الفلكلوريّة المعزِّزَة للروح وللهويّة اللبنانيّة.
مع “أبو سليم الطبل وفرقته” كانت الكوميديا “الفارس” شكلًا من أشكال الترفيه، دون تحميل الأمر كثيرًا من الجهد والعمق والبحث. كأن صلاح تيزاني يريدنا أن نخلع جميع العناصر الجدّيّة المؤلِّفَة لشخصيّة الإنسان الناضج، كي نعود أطفالًا نضحك للمفارقات السطحيّة.
من الدرونديّ إلى المختار
لكنّ مسلسل “الدنيا هيك”، كان في الوسط بين “أبو ملحم”، و”أبو سليم”، حيث لعِب صانعه محمّد شامل، دور المختار، الذي يراقب عن بعد ويتابع بعمق كلّ الفتن التي تصدر من “قهوة الدرونديّ” (شفيق حسن) وأذرعته، “علّوش” (يوسف شامل) و”أبو الزوز” (أحمد الزين)، ولا ننسى “زكزكات” فريـال كريم التي تقدّم شخصيّة “زمرّد”.
هكذا تدور المكائد والخلافات، إلى أن يصدر المختار أحكامه في نهايات الحلقات، وغالبًا بجلسة مع عود وغناء “بلبل أفندي” الشخصيّة التي جسّدها الفنّان ماجد أفيوني. يخبروننا أنّ الأمر ليس أكثر من سوء تفاهم، أو سوء تقدير، لذلك تُحَلّ الخلافات بـ”تبويس اللحى”.
تفجير سيّارة أبو ملحم
حتّى منتصف الثمانينيّات، بقي “يسعد مساكم”، مؤدّيًا للدّور المرسوم له، كواحد من أطول المسلسلات استمراريّة على الشاشة، فتكرَّست شخصية “أبو ملحم” المسالِمَة المصلِحَة، ليتحوّل الاسم رمزًا لكلّ من يعالج المشاكل باللين والمحبّة والتسامح.
لكن الكواليس كانت أكثر قسوة، وأشدّ لؤمًا على أديب حدّاد (1912- 1986)، الذي قدّم في إحدى المرّات حلقة معادة من مسلسله، ترد في سياقها كلمة “الغريب”، ليفسّرها البعض تلميحًا نحو الفلسطينيّين في لبنان، فتلقّى هو وعائلته تهديدًا، ثمّ فُجِّرَت سيّارته!
لم تكن الحادثة الوحيدة التي تعرّض لها أديب حدّاد، إذ إنّ منزله في عاليه سُرِقَ وتمّ إحراقه، ليتعرّض حدّاد للفالج، فيتوقّف عن أداء أيّ أدوار تمثيليّة، ويموت بعدها بعامين.
زجليّات أبو ملحم
كتبَ أديب إبراهيم حدّاد (مواليد عاليه)، الشعر الزجليّ، ناشرًا أعماله في مجلّات عديدة منها “بلبل الأرز” و”أمير الزجل” و”البيدر”. كما صدر له ديوان “زجليّات أبو ملحم”، وكتب كذلك تمثيليّات بالمحكيّة ما بين العامين 1942- 1945منها: “الحبّ في الضيعة”، “الحما والكنّة”، “خالتي القوميّة”، و”ليلى بنت الجبل”.
الكواليس كانت أكثر قسوة، وأشدّ لؤمًا على أديب حدّاد، الذي قدّم في إحدى المرّات حلقة معادة من مسلسله، ترد في سياقها كلمة “الغريب”، ليفسّرها البعض تلميحًا نحو الفلسطينيّين في لبنان، فتلقّى هو وعائلته تهديدًا، ثمّ فُجِّرَت سيّارته!
زاول أديب حدّاد التعليم في الجامعة الوطنيّة في عاليه، بين الأعوام 1932- 1939، انتقل بعدها للعمل مع أخويه في الأردن خلال السنوات 1941- 1943. ثم توظَّف في شركة “شل” سنة 1952، ليتعاقد من بعدها مع الإذاعة اللبنانيّة، معدًّا ومقدّمًا لبرنامج “صباح الخير”، ومن بعده “الدنيا صوَر”، ثمّ يعود ويقدّم برنامج “أبو ملحم” اذاعيًّا، قبل أن يتمّ نقله إلى التلفزيون باقتراح من نبيل غصن، قدّمه لمدير البرامج عزّ الدين صبح، فقدّم حدّاد حلقة مكتوبة، تمّت الموافقة عليها، لينطلق التصوير وتتوالى النجاحات.
في البداية كانت الفنّانة آمال العريس، تؤدّي دور أمّ ملحم، ومن بعدها الفنّانة ليلى كرم التي سافرت فجأة، ليقع الخيار على زوجته سلوى فارس الحاج، التي قدّمت دور أمّ ملحم حتّى آخر حلقات المسلسل. يذكر أنّ الابن الأكبر للزوجين اسمه زياد، لكنّ اللقب التلفزيوني طغى على الحياتي.
الحياد “القوميّ”
نجح أبو ملحم في إخفاء انتمائه السياسيّ، خصوصًا بعد تحوّله إلى رمز للصلح، يشار إليه بالبنان، فأديب حدّاد شغل منصب ناظر الإذاعة في منفّذيّة الغرب، في الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، وله صولات على منابر الحزب، ملقيًا القصائد الزجليّة المحمّلة بالكثير من المصطلحات والأسماء القوميّة، وبعضها محفوظ إلى اليوم في سجلّات القوميّين، مثل تلك القصيدة التي ألقاها في رثاء الرفيق الحزبيّ هادي عاصي، في الهرمل:
“قالوا عصابة شرّ متمادي
اغتالت حبيب الزوبعة هادي
قلتلهم يا ويلهم وبالأمس
نفس العصابة اغتالت سعادة“.
خوذات وربطات عنق
اليوم، وبعد أربعة وثلاثين عامًا على نهاية الحرب، وثمانية وثلاثين عامًا على رحيل أبو ملحم، نتذكّر كم كان هذا الرجل بطلًا يشبه “دونكيشوت” الذي لم يملّ من خوض حربه، ناكرًا مصارعته طواحين الهواء وديناصورات الحرب.
عاند واستمرّ لينال وسامًا من الدولة اللبنانيّة، وآخرًا من الدولة الفرنسيّة. وها نحن ذا، نقارب ذلك الزمن، من زاوية أديب حدّاد، والشاشة التي جهِدَت لتبقى في الوسط، لم تسلم من قذائف المتخاصمين.
وفي مرّة شاهدنا مذيع النشرة عرفات حجازي وهو يخفض رأسه جرّاء سقوط قذيفة قريبة من مبنى المحطّة. كانت المرّة الأولى التي نشعر فيها أنّ مذيع الأخبار ليس منفصلًا أو منفصمًا عمّا يجري من حوله. لكن المفارقة العبثيّة كانت بعد انتهاء الحرب، أنّ بعض المتحاربين دخلوا التلفزيون، ليحتلّوا مكاتبه بربطات العنق. كانوا من الميليشيات، وصاروا الدولة.