“سفر برلك” ايقونة الاستقلال الرحباني
زهير دبس
لم تفلح الاحتجاجات والتظاهرات التي نُظّمت عشية الثاني والعشرين من تشرين الثاني من العام ١٩٤٣وما افضت اليه من استقلال هجين من أن تصنع سردية متماسكة لفكرة الاستقلال اللبناني، إسوة بحكايا الاستقلال التي يتطلب كتابتها مظلوميات تتكئ على معاناة وظلم وقهر ونضال حقيقي لكي تكتمل الحكاية. لم تصلح الورقة التي مررها رياض الصلح إلى بشارة الخوري في سجنهما في راشيا والتي تقول ان المظاهرات تملأ البلاد لكي تؤسس لكتابة حقيقية لحكاية الاستقلال. فالحكاية كانت في مكان آخر ووقائعها مختلفة، استندت على معادلات وموازين قوى وإرادة لدى المستعمر في إيجاد صيغة .
بين الحقبتين التركية والفرنسية ابتعد عاصي الرحباني في التاريخ لينتقي من الأولى سردية مختلفة اكثر تماسكا واكثر غنى وقسوة. اختار عاصي الحقبة التركية وصنع من مظلومية “سفر برلك” فيلماً سينمائياً أراد من خلاله أن يكون أيقونة الاستقلال. الفيلم الذي أنتجه الرحابنة في العام ١٩٦٧ وأحدث أزمة دبلوماسية بين لبنان وتركيا على خلفية أن الفيلم يسيئ للأخيرة، حشد له الرحابنة فريقاً فنيّاً ضخما اشترك فيه معظم فناني لبنان حينذاك وعدد من الفنانين السوريين. الفيلم الذي رافق منذ إنتاجه وحتى اليوم معظم مناسبات الاستقلال حيث يُعرض خلالها، يُعدّ تحفة فنية رائعة من حيث الإخراج والأغاني والمشاهد الطبيعية والقصة العاطفية التي غلّف فيها عاصي القضية التي أراد للفيلم أن يكون محورها.
رومانسية الرحابنة وإبداعهما الفني لم يمنعا من حجب الحقيقة الكامنة في مكان آخر. فبالرغم من أن عاصي الرحباني اختار لنفسه دوراً محورياً في الفيلم وهو قائد المقاومة ضد المحتل التركي «أبو أحمد» البيروتي للدلالة على الشراكة الإسلامية في المقاومة، فإن الشريك المسلم في الواقع وتحديداً السني بقي موقفه خجولاً من إدانة تلك المرحلة التي يعتبر قسماً كبيراً منه إن الدولة التركية لم تكن سلطة إحتلال بل كانت امتداداً لدولة الخلافة.
رمزية «أبو أحمد» البيروتي انسحبت على أبو درويش الدمشقي «رفيق سبيعي» الذي شارك في الفيلم إلى جانب أبو أحمد في مقاومة المحتلين الأتراك، ومن خلاله أراد الرحابنة توسيع جغرافيا الحكاية لرأب الصدع الذي أحدثه الاستقلال في العام ١٩٤٣ والذي أنتج علاقة ملتبسة لا زالت التباساتها إلى الآن تقض مضجع البلدين.
«سفر برلك» الذي تضمن أغاني فيروزية جميلة «يا طير يا طاير على طراف الدني» و«علموني هني علموني على حبك فتحولي عيوني» وغيرها من الأغاني الجميلة تضمن حوارات قد تكون هي التي أدّت إلى الاحتجاج التركي حينها عندما خاطب قائد المقاومة البيروتي أبو أحمد (عاصي الرحباني) الضابط التركي الأرمني (برج فازليان) أثناء الاشتباك بالنار قائلاً له: « كل مطرح إنتي بيكون.. في ظلم في خراب في جوع… فيجيبه فازليان: «إخرس وليه.. إنت متآمر على الدولة العلية..» فيجيبه أبو أحمد «نحن الدولة العلية».
تقصّد الرحابنة في فيلم «سفر برلك» إبراز اللهجات المحلية المختلفة للمقاومين وانتماءاتهم المناطقية والطائفية ضمناً في واقعة الإشتباك مع الأتراك، فنرى أبو عبد البيروتي وزياد مكوك بلهجتهم البيروتية إلى جانب إيلي شويري وإحسان صادق بلهجتهما الجبلية للدلالة على الشراكة الجبلية والمدينية في مقاومة المحتل في مقاربة رحبانية للصيغة التي قامت عليها شراكة الإستقلال في العام ١٩٤٣.
«يا سليمان سمعنا صريخ ولاد بهالليل، ما في كسرة خبز بمعجن، والفران نسيت لون النار وعم نخبز البرد»… قالتها سلوى حداد مخاطبة اليوزباشي سليمان الذي اكتشف أن الأهالي يهربون القمح فانحاز إليهم وتواطأ معهم مسهلاً عملية التهريب. عندها قال له المختار (نصري شمس الدين): « الله يديمك يا سليمان الدم ما بيصير مي» لكن سليمان قضى شهيداً بعدما افتضح أمره من قبل الضابط التركي.
أراد الرحابنة من خلال «سفر برلك» صوغ حكاية مقاومة مختلفة عن غيرها من الحكايا المحيطة المشبعة بشعارات العروبة وخطاباتها، حكاية تخدم «الصيغة الفريدة» التي تنأى بنفسها عن المحيط وتحيك من خصوصيتها ذاكرة خاصة بها تنفرد بها عن غيرها، تحاكي فيها هذا الوطن الصغير الذي أراده الرحابنة «وسع الدني».
لقد ساهمت الجغرافيا السياسية المتحركة تاريخياً إلى ولادة دول متحركة تنزلق كل فترة إلى الحروب والفوضى. فولايات بيروت وصيدا وعكا ودمشق والتي كانت تتمدّد تارةً وتنحسر تارةً أخرى لا زال تأثير حركتها يتداخل في الحاضر وفي الجغرافيا القلقة التي لم تعرف الركون إلى الراحة والاستقرار يوماً.
«السعادة ما بتعيش حد الجوع.. بتصيبها بالعين» قالها أبو أحمد لخطيب عدلا (فيروز) عبدو (إحسان صادق) الذي أخذه الأتراك إلى السخرة وفرّ منهم ليجيبه الأخير: « وبعدين شو بدو يصير» فيجيبه أبو أحمد «بدنا نضل نقاتل». فيقول له عبدو «ويجيبولنا عسكر وننسحب». لينهي الحديث أبو أحمد «بيروحوا… بالنهاية البلاد لأهلها».
وبالرغم من أن كتب التاريخ (وهو قريب) لا تحدثنا عن مقاومة فعلية ضد المحتل التركي، أقله وقائع عسكرية وعمليات ضده، فإن الرحابنة في «سفر برلك» نسجوا حكاية مقاومة اشتعلت في طولا البلاد وعرضها، وليس أبلغ من ذلك ما قاله أبو أحمد لعبدو منادياً له لكي يلتحق بهم في المركب المنتظر على رصيف الميناء في جبيل: «لا تفكر عين الجوز عم تقاوم البلاد كلها عم تقاوم… معركتنا هلق بديت.. وما زال بعد عنا شغل.. إمشي على ما يقدر الله».
يقول عبدو مخاطباً ديب قبل أن يصعد إلى المركب الذي ينتظره :«أمانة يا ديب بتسلملي على عدلا وبتقلها مش رح إقدر شوفها» فيجيبه ديب ليش يا عبدو فيقول له: «صار في بيني وبينها بيادر فاضية وفارس وسليمان وكل اللي راحوا».
من على صخرة عالية تطل على البحر تصرخ عدلا مناجية عبدو الذي ابتعد على متن المركب: «خذني معك» فيقول لها ارجعي عمشتى الديب. فتجيبه «لحقتك كل هالإيام تتركني هون». فيجيبها: «هون بلدنا وبدنا نرجع.. نطرينا نحنا جايين.. البسي المحبس»… تختم عدلا ملوحة بيديها: «محروسين بالبحر.. ومهما بعدوكن أنا ناطرة وإنتو جايين.. مهما جابوا عسكر.. أنا ناطرة وإنتو جايين.. يومها العرس عرسين.. شال أزرق وبيرق عم يلوح».
«سفر برلك» أيقونة الإستقلال هكذا أراده الرحابنة وهكذا صنعوه ليكون. إيقونة وعلى الرغم من الاستعارات الكثيرة التي أسقطوها عليه، بقيت تفتقد إلى الكثير في مقاربتها للواقع المغاير الذي انفجر في أكثر من محطة، لكنه بقي أيقونة فنية تلوح بها فيروز لابسة «محبس الخطبة» و«ملوحة بشال الحرير».