“منتدى خيرات الزين”.. آخر المعاقل الثقافيّة في بيروت
يكاد “منتدى خيرات الزين” يكون آخر معاقل المثقّفين في بيروت. هكذا، كأنّهم يأبون الاستسلام، فيرابطون عند تخوم الحمراء، لناحية قصر قريطم. الجميع هنا حرّاس من دون أن ينظّم لهم أحد نوبات الحراسة.
يتقاطرون فرادى، أو يتداعون بواسطة هواتفهم النقّالة. ليس بالضرورة أن يستلزم الأمر تنسيقًا مع السيّدة خيرات الزين، التي تفتتح “المنتدى” الزجاجيّ، كلّ صباح، حاملة القهوة الساخنة في “براد” يحفظ حرارتها طوال النهار.
وخيرات “العذبة” تبدأ نهارها بريّ أصص النباتات، رفقة أغنية أصيلة، تحت عيون اللوحات التشكيليّة المالئة للجدران، متوسّعة نحو بعض الطاولات التي تحوّلت بدورها إلى لوحات أفقية.
بين العاشرة صباحًا، والحادية عشرة قبيل الظهر، يكتمل النصاب، أو يكادأن يكتمل، مع الروائيّ رشيد الضعيف، والروائيّة علويّة صبح، والتشكيليّ عمران القيسي، والشاعر جودت فخر الدين، والصحافيّ فيصل سلمان، والشاعر المير طارق آل ناصر الدين، والإعلاميّ الشاعر عبد الغني طليس، والفنّان حسن جوني، ونقيب المحرّرين جوزيف القصّيفي، والفنان أحمد قعبور…
فناجين القهوة، وحبّات التمر، وقد تزيد الكستناء المشويّة المحمّرة شتاءً، هي وقود النقاشات اليوميّة، نقاشات لا يعرف أحد كيف تبدأ، أو يتوقّع كيف ستنتهي. يرتفع الصوت من هذه الزاوية، فينخفض في تلك، ثمّ يرون صمت وجيز، بعدها يهبط طرح آخر لا يمتّ إلى السجال الأوّل بأيّ صلة!
حين حاورت بيروت أدونيس
ظهر المنتدى منذ أربع سنوات، بالتزامن مع تفشّي وباء “كورونا”. وبسؤال طرحه الشاعر حسن العبدالله عن مكان يأخذ شكل المحطّة في إبّان علاجه، جاء الردّ في خلال أيّام قليلة من خيرات، إذ تنبّهت إلى محلّات لها مغلقة تقع في أسفل مبنى سكنها، المقابل تمامًا لقصر قريطم.
سارعت إلى افتتاح المكان، بعدما وزّعت في أرجائه كنبات وكراسٍ وطاولات، إلى بعض اللوحات والتحف والمكتبات؛ أثاث فاض عن أثاث بيتها، وعن المرسم، فأجْرت تنسيقًا وفق خبرتها، ليكون الحاضن لتلك اليوميّات، التي راحت تتّسع وتختمر، من دون قوانين و”قيود” مسبقة.
ظهر المنتدى منذ أربع سنوات، بالتزامن مع تفشّي وباء “كورونا”. وبسؤال طرحه الشاعر حسن العبدالله عن مكان يأخذ شكل المحطّة في إبّان علاجه، جاء الردّ في خلال أيّام قليلة من خيرات، إذ تنبّهت إلى محلّات لها مغلقة تقع في أسفل مبنى سكنها، المقابل تمامًا لقصر قريطم.
تبلور “منتدى خيرات الزين” الاسم الذي بدأ اصدقاؤها يردّدونه على مكان التقائهم، ليصبح صالة عرض لعدّة فنّانين تشكيليّين، أو باحة احتفاليّة في تواقيع الكتب، أو ملتقىً نسائيًّا شهريًّا لنقاش الروايات.
وقد استقبل المنتدى أخيرًا الشاعر أدونيس، وحاوره الشاعر محمّد ناصر الدين، بحضور نخبة من المثقّفين، تحت عنوان “بيروت تحاور أدونيس”. وما من غلوّ في التوصيف، إذا ما قلنا: احتشدت بيروت فعلًا، كلّ بيروت، في تلك المساحة المتواضعة المنفتحة على الآراء المتعدّدة.
سرّ حبّة الزنزلخت
من بلدة شحور، قضاء صور، تنحدر خيرات الزين، المولودة في بيروت. عاشت ثنائيّة المدينة والريف، قبل أن تحطّ رحاها مع زوجها وأولادها في ساحل العاج، عشر سنوات، انتهت برحيل الزوج، وبداية رحلة مختلفة مع الحياة والمسؤوليات والابداعات، كانت بينها محطّة في النبطية تحت عنوان “je m’en fous”، (أنا لست أبالي).
“لا تعادِي الأيّام، فتعاديكِ”، هي واحدة من الحكم التي كان يزقّها الجدّ، لحفيدته خيرات، ويستكمل نصائحه: “أحبّي كلَّ شيء، كلُّ شيء يحبّك”. أمّا جدّتها فكانت توصيها بالاستيقاظ الباكر قائلة: “فيقي قبل ما الحيّة تكحّل عينيها”، والتزمت الحفيدة بتلك المقولة، فتنام في غرفة بلا ستائر، لتستيقظ بمجرّد دخول الشمس إليها. ولتلك الجدّة وصفة شعبيّة لمنع الحمل، ألا وهي تناول حبّة “زنزلخت” لمرّة واحدة في العام، فلا يتحقق الحمل!
الابواب والأساطير
من زمن الطفولة تلك، تتوقّف الفنّانة خيرات عند بابين مختلفيّ التصميم والعلوّ في بيت جدّها الجنوبيّ، فالأوّل لأهل البيت وزوّاره، بينما الثاني للجمال والخيول. هكذا صارت خيرات مسكونة بالأبواب، تلفتها بألوانها، زخارفها، خشبها، قِدمها. تقول خيرات: “في شحور، بالقرب من بيت جدّي، كانت هناك صخرة سمراء كبيرة. لطالما غرْت من تلك الصخرة، فأدنو منها لأحفّها بيديّ، بغية سرقة لونها”.
سرديّات، ومحطّات كثيرة، نستشفّ منها تلك العلاقة بين خيرات والألوان والأشكال. تكاد تؤنسن كلّ شيء، تحاكي الجماد، وتبتكر منه الحكايات، وتنسج حوله الأساطير. فحكاية خيرات مع الشجرة القريبة من المنزل في بيروت خير مثال على ما نقول. تلك التلميذة التي لم تكن قد أنهت عامها العاشر، كانت تقترب من الشجرة وتوشوشها قبيل ذهابها إلى المدرسة.
وفي مرّة عادت لتعيش الصدمة، إذ وجدتها مقطوعة من منتصف جذعها، فبكت، وأبت الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي، حتى قدّم لها والدها صورة لتلك الشجرة، فعقدت مع تلك الصورة تسوية، مفادها إعادة رسم الشجرة، لتكون البداية الرسميّة لخيرات الرسّامة، التي عادت وبلورت علاقتها بالرسم في ساحل العاج، حيث الألوان والزخارف الفاقعة في كلّ مكان، كذلك عادت ودرست الرسم في باريس وايطاليا، لتغذّي نظرها كذلك بتأمّل أهمّ اللوحات العالميّة في متاحف تلك البلاد.
نياشين ذاتيّة
بطبيعة الحال، كانت خيرات محاطة بالكتب، في بيت إلِفَ الكتاب تأليفًا ونشرًا، فالوالد هو سميح عاطف الزين، المفكّر الاسلاميّ الوسطيّ، متخرّج الجامعة الاميركيّة، قسم الأدب الإنكليزيّ، الذي ألّف ما يفوق مئة كتاب، وكان لاسمه رنّة حيث يحلّ. لذلك كانت الابنة تشاكسه، كأنّها في حالة تضاد، وأحيانًا عناد، تبني كيانها بازميلها، حتى لو كانت بعض الضربات مرتجلة.
من نصائح الوالد لابنته الشابّة خيرات، ألّا تنتظر التقدير من أحد. بل دلّها على متجر يبيع النياشين في منطقة كورنيش المزرعة، أوصاها بأن تشتري لذاتها نيشانًا كلّما حقَّقَت إنجازًا، وهو ما فعلته، وفي مرّة سألها: “كم نيشان منحتِ نفسكِ طيلة هذه المدّة؟” فكان ردّها: “سبعة نياشين، غير أنّني قد أخطأت ثلاثة أخطاء غير مبرّرة، فحجبتُ عن نفسي ثلاثة من السبعة”.
التشكيل الحقوقيّ
في أوائل التسعينيّات، نظّمت خيرات الزين، معرضها الفرديّ الأوّل في قاعة قصر الأونيسكو، تحت عنوان “قضاء وقدر”، وهو انعكاس للجزء البارز من شخصيّة الزين، الحقوقيّة، ولو لم تدرس الحقوق يومًا، فكثيرة هي تلك السجالات والدعاوى القضائيّة التي تابعتها خيرات، وعن أكثر من مجال، حتّى أنّ كتاباتها الصحفيّة الأولى في “النهار”، لم تكن أدبيّة، أو تشكيليّة، بل حقوقيّة صرف.
في أوائل التسعينيّات، نظّمت خيرات الزين، معرضها الفرديّ الأوّل في قاعة قصر الأونيسكو، تحت عنوان “قضاء وقدر”، وهو انعكاس للجزء البارز من شخصيّة الزين، الحقوقيّة، ولو لم تدرس الحقوق يومًا.
والمفارقة أنّ خيرات قد ابتاعت مجموعة من الكتب القانونيّة، لتلتقط أسّ القانون، وهي بقدر عدم ثقتها بالقضاء اللبنانيّ، إلّا أنّها لا تثق كذلك بالمحامين، الذين تعتبر بعضهم شركاء في تهشيم صورة العدالة.
لم تكتفِ تلك الفنّانة بانجاز لوحاتها الخاصّة، بل انغمست كمعلّمة رسم، ميدانيًّا مع الأطفال، في المخيّمات الفلسطينيّة، وصولًا حتّى عكار، كذلك الزراريّة، وبنت جبيل. وهي تؤمن أنّ الفنّان ليس حالة نخبويّة معتزلة لبيئتها، وزمانها.
حارسات الخوف
“منام الماء”، هو عنوان الكتاب الأوّل لخيرات الزين، التي اشتغلت عليه على مدى سبع سنوات، ليكون تحفة أدبيّة وتشكيليّة، إضافة إلى فخامة الإخراج والطباعة، فكان حدثًا بحدّ ذاته، لفرادة موضوعه. كذلك تعمل الزين على كتاب جديد منذ خمس سنوات، سيحمل عنوان “منام العطر”، وفيه تؤلّف أسطورة لكلّ وردة. أمّا “حارسات الخوف”، فهو على وشك الصدور، بعد اكتمال قصصه القصيرة.
هكذا هي، غير مستعجلة على شيء، طالما أنّ ما تنجزه فبعناية وحبّ. هي التي تقف بإعجاب أمام عبارة ابن عربيّ: “الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد”. أمّا الجملة التي ختمت بها حوارنا معها فتفيد: “لم أنتظر شيئًا، قمتُ بالأمور التي عليّ القيام بها”.