حياكة “الكروشّيه” إلى زوال بعد عزّ وازدهار

بالقليل من الخيوط والصنّارة يمكن لتلك المرأة ذات اليدين المتجعّدتين أن تصنع لوحة فنّية غاية في الجمال والروعة، يكفي مراقبة حركة يديها مع ما يترافق ذلك من نتائج مذهلة لتدرك أنّ ما تقوم به هو فنّ حقيقي بكلّ ما للكلمة من معنى.

فنّ الكروشّيه، هو عبارة عن حياكة ونسج يدوي يعود قرونًا إلى الوراء، كانت تتقنه معظم النساء قديماً، وتتناقلنه في ما بينهنّ، لا بل كنّ يتبارين أيّهنّ تستطيع أن تبتكر أشكالًا جديدة وتحتكرها لنفسها من دون أن تعلّمها لغيرها، إلّا بعد عناء شديد .

تاريخ الكروشّيه

الكروشّيه كما تدلّ التسمية، هي كلمة فرنسيّة، وبالتالي فإنّ هذا الفنّ هو فرنسيّ الأصل ومن أقدم الفنون، ظهر في لبنان في القرن التاسع عشر، وعلى حدّ تعبير الحاجّة الحجة زينب مصطفى من بلدة النقرة التي ما زالت تتقن هذا الفنّ “كنّا نأخذ الشكل أو الغرز والحلقات عن “الجورنال” والمقصود الصحف والمجلّات الفرنسيّة، تعلّمتها من والدتي وحاولت مرارًا أن أنقل هذه المهنة لبناتي، لكن دون جدوى.

يقوم هذا الفنّ على حياكة مجموعة من الغرز بأشكال مختلفة وأعداد متفاوتة تفصل بين الغرز فراغات وسلاسل هي التي تحدّد الشكل النهائيّ، ولعلّ أبرز الرسومات المتداولة والمعروفة هي الوردة، الطائر، الطاووس والحصان، على الشراشف والمساند.

أمّا أغطية الطاولات فتأخذ أشكالًا هندسيّة مختلفة، منها ما دائريّ ومنها ما هو مستطيل ومعيّن، بالإضافة إلى شكل وردة، سمكة، عنقود عنب، زوبعة وورق الحور.

‌خيوط وصنارة

هي الخيوط نفسها تستطيع أن تخرج قطعًا بأشكال ورسوم مختلفة نتيجة حبكها و”نيجها” بطريقة مختلفة (غرزة بلفّة، وغرزة بلا لفّة، غرز سلسلة، غرز ناعمة، غرز لفّ على الصنارة) بالإضافة إلى التزهير الدائريّ للقطع (الزهرة)، من خلال هذه الخيوط يمكن صناعة غطاء الطاولة الكبيرة، ومجموعة “طقم طاولات”: ثلاث قطع مختلفة الأحجام، وتلبيسات للوسائد والمساند أو “خِرج” للوسائد.

هي الخيوط نفسها تستطيع أن تخرج قطعًا بأشكال ورسوم مختلفة نتيجة حبكها و”نيجها” بطريقة مختلفة بالإضافة إلى التزهير الدائريّ للقطع (الزهرة)، من خلال هذه الخيوط يمكن صناعة غطاء الطاولة الكبيرة، ومجموعة “طقم طاولات”.

وتشرح الحاجّة زينب “بأنّه حياكة يدويّة على أطراف قماش للوسائد، وغطاء للأسرّة وغطاء لـ”اليوك” وهو عبارة عن خزانة في الحائط، تلبيسات لركاء القهوة والفناجين، تلبيسات للكاز، لجرّة الغاز، وجرار الفخار، ومحارم السفرة وغيرها”.

جهاز عروس

يعتبر الكروشّيه من تقاليد تجهيز أيّ عروس، بل كانت العروس بنفسها هي من تخيط وتصنع “جهازها”. وهنا تروي الحاجّة زينب “أنّ الكروشّيه كان من الفنون المشهورة، وكان لا يخلو تجهيز عروس من هذه القطع المشغولة يدويًّا، وكانت العروس تصنعها بنفسها، وكان ذلك دليل على شطارتها” و”ستّ بيت” فلا تحتاج لأن تشتري أيّ شيء من القطع الجاهزة التي تباع في الأسواق”.

في هذا السياق، تروي إحدى السيّدات “أنّ الحياكة اليدويّة كانت مباراة بين النساء في تلك الحقبة، وكانت كلّ سيّدة تفاخر بأنّها تجيد حياكة غرز بعض الرسوم التي لا تسمح لسواها “بنقلها أو نقضها” لا سيّما إذا كانت عروسًا، فإنّها تحاول أن تكون قطعها مميّزة، ولا تسمح لسواها بتقليدها، إذ كثيرًا ما كانت تنشب خلافات بين النسوة بسبب سرقة أفكار ورسومات معيّنة.”

شِلل وبكرات

كانت النسوة في بعلبك الهرمل تؤمّن الخيوط بشكل عام من مدينة بعلبك ومن الشام وحمص في سوريّا، وكانت تشتريها على شكل شِلل، ثمّ تقوم بلفِها على شكل كرة أو دائري على بكرة أو “كركر خشبيّ” ومن ثم تجهز للحياكة. وتقول إحدى السيّدات أنّها كانت تشتري أوقيّة الخيوط بليرة واحدة، وكانت تصنع منها طقم طاولة من ثلاث قطع وتبيعه بخمس ليرات.

وتلفت السيدة إلى أنّ هذه الخيوط هي من أنواع مختلفة منها: الحرير والقطن والصوف والنايلون وكلّ نوع مخصّص لحياكة يدويّة معيّنة، بعضه مخصّص للأحذية وحقائب اليد .

الكروشّيه مصدر دخل

لم يكن الكروشّيه يصنّع من قبل  السيّدات في ما مضى، لمنازلهنّ فحسب، بل كانت النساء بحسب تعبير السيدة نبيهة شمص من بلدة الدورة في البقاع الشمالي، وهي من اللواتي يتقنّ أيضًا هذا العمل مذ كان عمرها 14 عامًا، وقد تعلّمت وهي صغيرة أن تحيك على المسمار، لعدم قناعة ذويها بأنّها تستطيع تعلّم هذه الحرفة، فتقول: “عندما تأكّدوا من أنّني أستطيع ذلك اشتروا لي صنّارة خاصّة”، لافتة إلى “أنّ أيّ سيّدة كانت تُنهي أعمالها المنزليّة بسرعة لكي تنصرف إلى حياكة الكروشّيه بما تبقّى من اليوم، من أجل بيعه وتأمين دخل تساعد به ربّ أسرتها، وعادةً ما كانت السيدات اللواتي يصنعن الكروشّيه في قرى وأرياف بعلبك- الهرمل يقمن بإرسالها إلى مدينة بعلبك أو إلى العاصمة بيروت لبيعها حيث الطلب عليها”.

وتستذكر الحاجة زينب مصطفى، بعض المحال التجاريّة التي كانت تستلم منهم هذه القطع، وصاحب أحد المحال كان معروفًا بـ”ذو الفقار”، والآخر من آل رعد كان دكّانه في السوق التراثيّة في مدينة بعلبك.

تقول نبيهة شمص: “إنّ الطلب على الكروشّيه كان كبيرًا، وكنت أتلقّى طلبيّات حياكة جهاز كامل، وأتذكّر أنّه في خلال السنوات العشر التي سبقت الأزمة الاقتصاديّة، كان طقم الكروشّيه لثلاث طاولات يباع بين 15 ألف ليرة و35 ألف ليرة، وغطاء طاولة و12 كرسيًّا كان يباع بخمسة وسبعين ألفًا”.

الكروشّيه للمعارض

اللافت اليوم، أنّ بعض النسوة لم يزلن يحكن الكروشّيه اليدويّ، ولكن بنسب قليلة. وتقام بعض الدورات لتعليم المبتدئات على هذا الفنّ، في إطار عمل الجمعيّات والأحزاب. ولعلّ هذا الأمر أبرز ما أبقى على حضور الكروشّيه الدائم والملفت في المعارض الكبرى، لا سيما تلك التي تعرض تراثيّات المنطقة.

بعد أكثر من قرنين، انتقل الكروشّيه من البيوت المتواضعة إلى القصور الفخمة، ولم يعد وجوده حكرًا على بيوت صانعيه حيث بدأ فيها، بل بات يعدّ قطعة من التراث التي لها قيمة معنويّة، وكثيرًا ما تزين طاولات ومفارش الصالونات الفخمة. في السابق كانت بيوت الطين تزين رفوفها بقطع من الكروشّيه والمفارش المصنوعة يدويًّا، واليوم أصبح الكروشّيه من القطع النادرة التي لا تتوافر لأيّ كان، لقلّة من يجيدون صناعتها وحياكتها من جهة، ولكون الكروشّيه بات اليوم مكلفًا جدًّا.

يكاد هذا الفنّ أن يتلاشى، فقليلات من كثيرات، لم يزلن يجدن هذه الحرفة بإتقان إلى اليوم، ويمارسنها كمهنة، حيث تتوجّه النساء في وقتنا الحاضر إلى الجاهز والمتوافر في الأسواق، وهو عبارة عن حياكة على الماكينات الكهربائيّة، وتلفت الحاجة زينب إلى أنّ “ربّة البيت اليوم غير مستعدة لأنّ تتعب نفسها في عمل الكروشّيه وهي تسعى لأن تستعيض عنه باغطية القماش”.

عودة بعد جمود

لكن، وبعيدًا عن المنحى التجاري لفنّ الكروشّيه، وفي مختلف المناطق اللبنانيّة لن تتخلّى كلّ ماهرة في الحياكة عن هوايتها، إن لم تحك للأبناء والأحفاد، فلبنات الأقارب والأصدقاء وأبنائهم، أو لتبدع في هواية اختارتها بشغف. ربّما تراجعت مصادر الصوف ودكاكينها الضخمة، لكنّ المربية سمر شمس الدين، مثلاً، تشتري كنزات من سوق “البالية” وتفرط صوفها النقيّ لتعيد حياكته حزامًا (بوند) لشعر “يانا” وتقول: “انغمست في التعليم وتربية الأولاد، لكنّني لم أكن لأترك وقت فراغ من دون العودة إلى حياكة الكروشّيه” ومثلها فعلت كثيرات.

بعد خمود دام لسنوات عديدة بسبب إغراق السوق بالحياكات المستوردة والجاهزة التي تتدنّى تكلفتها عن كلفة المحوك يدويًّا، عادت حرفة حياكة الكروشيّة إلى الواجهة، لأكثر من سبب، أوّلها الانهيار الاقتصاديّ الذي انعكس على أوضاع مجمل العائلات اللبنانيّة أو المقيمة في لبنان، فعادت هذه الحرفة لتشكّل مصدرًا داعمًا للعديد من السيدات وربّات المنازل؛ ثمّ بسبب تراجع أو تدنّي فرص العمل فكانت العودة الميمونة إلى الحرف البيتيّة ومنها حرفة حياكة الكروشّيه. ولن ننسى هنا الحصار الذي فرضته جائحة “كورونا” نحو عامين ما خلق متّسعًا من الوقت للعودة إلى الهوايات، لا سيّما إلى حياكة الكروشّيه.

وها إنّ معارض الحرف اليدويّة في مختلف المناطق اللبنانيّة عادت لتزخر بإبداعات الكروشّية المعروضة للبيع بأسعار تشجيعيّة. ناهيك، عن الدور الذي عادت لتلعبه وسائل التواصل الاجتماعيّ “تيك توك” و”إنستاغرام” وغيرها من خلال بثّ “فلاشات” وأفلام قصيرة عن الحياكة وحبكاتها الجديدة والجميلة، السهلة والمعقّدة، التي شكّلت بحدّ ذاتها محفّزًا على إخراج الصنّارة من الأدارج النائمة، والعودة إلى الهواية الأحبّ، عند كلّ سيدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى