النساء خارج بلديّة طرابلس إطاحة السوابق وتكريس التمييز

بخلاف بلدات وقرى لبنانيّة لا تزال تحتفي بفوز سيّدات في الانتخابات البلديّة، وأخرى شهدت ترشّحهن للمرّة الأولى، بل وتولّت سيّدتان رئاسة بلديّتين في عكّار، لم تستطع أيّ سيّدة من بين 22 مرشّحة إلى عضويّة بلديّة طرابلس من الفوز.
يضمّ مجلس بلديّة طرابلس اليوم 24 عضوًا، 12 منهم من لائحة “رؤية طرابلس” المدعومة من السياسيّين (تحالف ريفي-كرامي- المشاريع)، و11 عضوًا من لائحة “عمران” المشكّلة من مهنيّين وروّاد أعمال، وعضو من “حرّاس المدينة” المعروفين بنشاطهم الميدانيّ.

تعكس التشكيلة من الجنس الواحد هبوطًا، ليس دون دلالات في التمثيل النسائيّ البلديّ، وكذلك هو الأمر في بلديّة الميناء، ولو أنّ المرشّحة مريم صالح، خسرت بفارق 41 صوتًا، وكانت ثانية الخاسرين، ما أجهض فرصة وشيكة. أمّا في طرابلس، فقد فصل ريما علي 277 صوتًا عن النجاح، وهي أولى الخاسرات وترتيبها السادس بين الخاسرين.

نساء قديرات لسن ديكورًا

يجدر التذكير بأنّ مجلس بلديّة طرابلس ضمّ نساء قديرات ولسن ديكورًا، وكسبن تأييد الناس بفعل انخراط حقيقيّ ومؤثّر في الحقل العام: ثلاث سيّدات في دورة العام 2004، وأربع سيّدات في دورة 2010، وسيّدة واحدة في دورة 2016، ما يؤشّر إلى بداية التراجع منذ الدورة الماضية.

برزت التحدّيات في طرابلس من ثلاثة جوانب: أوّلًا، التشرذم بين ستّ لوائح. ثانيا، تأخّر استقرار اللوائح بشكل غير مسبوق، وذلك في انتظار الإشارة السياسيّة، ثالثًا، ضعف عامّ في ماكينات اللوائح الأخرى

إنّ قراءة هذه النتيجة بعيدًا من دوّامة جلد الذات أو التبريرات السهلة، تفترض التمييز بين الديناميّات الانتخابيّة الواقعيّة من جهة، والعوائق البنيويّة، الثقافيّة والاجتماعيّة من جهة أخرى. وتشمل هذه المقاربة مستويات متقاطعة: المرشّح في بلديّة طرابلس، المرشّحة في بلديّة طرابلس، والمرأة في الميدان السياسيّ، في لبنان عمومًا وطرابلس بشكل خاص.

في ردود فعل أوّليّة، أحيلت النتيجة إلى طرح سائد، وهو عابر للأزمنة والأمكنة والمجالات: “إنّ عدوّ المرأة هو المرأة”، وعلى رغم أنّه يحمل جانبًا من الحقيقة، لكنّه لا يقول جديدًا، ولا يقول كلّ شيء: الفرص العادلة تقضي الإقرار أوّلًا بوجود متطلّبات للنجاح يشترك فيها الرجال والنساء.

تحدّيات التشرذم

وقد برزت التحدّيات في طرابلس من ثلاثة جوانب: أوّلًا، التشرذم بين ستّ لوائح، وهذا ما أفضى إلى ذبذبة خيارات الناخبين. ثانيا، تأخّر استقرار اللوائح بشكل غير مسبوق، وذلك في انتظار الإشارة السياسيّة، وانبثق عنها أخيرًا لائحة “رؤية”. ثالثًا، ضعف عامّ في ماكينات اللوائح الأخرى، وفاقمه الانكشاف التقنيّ والقانونيّ والمادّيّ الرسميّ أثناء العمليّة الانتخابيّة والفرز.

تضاعفت هذه التحدّيات لدى المرشّحات، فكنّ الأكثر هشاشة في موازين هذا الاستحقاق. يمكن البناء على تجربة “تضامن نساء طرابلس”، أثناء التحضير وخلال اليوم الانتخابيّ. حاولت المبادرة دعم حضور النساء في بلديّتيّ طرابلس والميناء، بهدف إشراك المرأة الطرابلسيّة في التمثيل البلديّ على قاعدة التكافؤ والجدارة، على ما تشير مُطلقة هذه المبادرة السيدة ليلى شحود لـ”مناطق نت”، وهي تمتلك خبرة طويلة في الشأن البلديّ، بفضل عضويّتها في مجلس بلديّة طرابلس خلال دورتين.

ليلى شحود، عضو مجلس بلدية طرابلس لدورتين
مباغتة انتخابية وانحياز ذكوري

تقول شحود، أنّ النّساء تقلّبن في البداية في حال من التردّد، والسبب “وقوع ما يمكن تسميته بـ “المباغتة الانتخابية”، وهي أجواء عامّة وسَمت الانتخابات. كذلك كان تردّدهن نابعًا من غموض التحالفات وغياب الانطباع بالندّيّة، ممّا يصعّب عليهنّ تقييم موقعهنّ حتّى ضمن اللائحة الواحدة. فقد تواصلت لوائح مع مرشّحات بهدف الانضمام، ولم تفصح عن أسماء بقيّة المرشحين الذين ضمّتهم”.

وتتابع: “أثّر هذا التعاطي في المدّة الزمنيّة لحملة السيّدات. إذ إنّهن لا يملكن المال الكافي لتغذية الماكينات الانتخابيّة، الأمر الذي مارسه مرشّحون ولو بأشكال صغيرة أقلّ كلفة من الانتخابات النيابيّة”. وتضيف ليلى شحود “نتيجة لهذا النهج، ضُمّت السيّدات إلى لوائح مثل أزهار التوليب، اكتمالًا للعدد، ولم يحظين بالتزام سياسيّ، لأنّ المرأة لم تكن ملاصقة أو عضدًا للسياسيّين على غرار الرجال. أمّا “نسيج طرابلس” (هويّتها مستقلة)، فلم تكن تمتلك ماكينة ضخمة”.

وهذا ما يفسّر، بالأرقام، أنّ أولى أربع نساء خاسرات ينتمين إلى لائحتين غير مسيّستين وهنّ: ريما علي (نسيج طرابلس)، ورويدا الرافعي (نسيج طرابلس)، ومايا طرابلسي (حرّاس المدينة)، وإقبال عويضة (نسيج طرابلس)، تليهنّ رولى عوض من “رؤية طرابلس” المدعومة من السياسيّين.
وتشير إلى عامل خطير تعتبره الأكثر وجاهة في المعادلة “ويتمثّل بذوي النفوذ الذين غذّوا شعبيّتهم وحيثيّتهم الخدماتيّة من السياسيّين على مدى عقود، وأصبحوا يمتلكون تأثيرًا في المناطق الشعبيّة. وتحت جنح الظلام، شكّل هؤلاء لوائح انتخابيّة من دون أسماء نساء، واعتمدها مناصروهم. والأحياء الشعبيّة كانت الخزّان البشريّ لليوم الانتخابيّ”.

سارة الشريف، تراجعت عن الترشّح رغم شعبيتها
ثقافية لبنانيّة متجذّرة

يتوافق المشهد في طرابلس مع خلاصات الدورة البلديّة السابقة في العام 2016، خصوصًا في الأقضية والمدن الكبرى، بحسب ما تشير الخبيرة الجندريّة عبير شبارو في حديث لـ “مناطق نت”.
تقول: “إنّ التمثيل النسائيّ شهد تراجعًا في بيروت وطرابلس وجونية وزحلة، لأنّ الأحزاب السياسيّة ما زالت في معظمها تتعامل مع المرشّحات كملحقات لا فاعلات أساسيّات. وغالبًا ما يتعرّضن للتشطيب الانتقائيّ، ويُستخدمن لاستقطاب أصوات عائلاتهنّ، أو لتجميل اللوائح بادّعاء إنصاف النساء، فيما تبقى الممارسة الفعليّة منحازة لصالح المرشّحين الذكور”.

في المقابل، تُظهر القرى والبلدات موازين مختلفة. فمقارنة بمدينة كطرابلس، التي تضمّ ربع مليون ناخب، تمنح القرى فرصًا أكبر لبروز النساء الفاعلات والتصويت لهنّ، ربّما لأنّ تعريف القيادة وحدودها يقتصر على حيّز ضيّق، لا سيّما في المجتمعات التقليديّة ذات الهياكل الأهليّة الواضحة والمتماسكة، دون إغفال خصوصيّات هذه الأرياف وتحدّيات النساء ضمنها.

ترى شبارو أهمّيّة قصوى في فهم المزاج الانتخابيّ من خلال تتبّع تطوّر سلوك الناخبين والناخبات، وملاحظة عدد النساء اللواتي صوّتن، ولمن صوّتن، وما إذا كان التصويت يخضع لاعتبارات ذكوريّة بحتة أو عوامل تفضيليّة أخرى.

إنّ افتراض تركّز أصوات المقترعات النساء للمرشحين الرجال غير مستبعد، ولكن يلزم المقارنة بنسبة ترشّح النساء. فبحسب تقرير برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ UNDP، بعنوان “المرأة في الانخابات البلديّة والاختياريّة 2016: نتائج وأرقام”، شكّلت المرأة 50,8 في المئة من نسبة المقترعين، وعلى الرغم من ذلك، لم تتجاوز نسبة تمثيلها في المجالس البلديّة والاختيارية 5,4 في المئة”. وعلى عكس الانطباع الأوّل، إنّ هذه نتيجة مقبولة جدًّا ومنطقيّة، بالنظر إلى نسبة ترشّح النساء التي لم تتجاوز 6,9 في المئة.

اليوم، تسجّل الانتخابات البلديّة ارتفاعًا في عدد المرشّحات، البالغ نحو 3000 مرشّحة، مقارنة بـ 1519 مرشّحة فقط في انتخابات 2016، أيّ بزيادة تقارب الضعف، فهل سيتضاعف التمثيل أيضًا؟

إنتاج الهيمنة الذكوريّة

أمّا اليوم، تسجّل الانتخابات البلديّة ارتفاعًا في عدد المرشّحات، البالغ نحو 3000 مرشّحة، مقارنة بـ 1519 مرشّحة فقط في انتخابات 2016، أيّ بزيادة تقارب الضعف، فهل سيتضاعف التمثيل أيضًا؟

في سياق مرتبط، تعود شبارو إلى المشهد السياسيّ المتكرّر، حيث غالبًا ما تستمرّ العائلات، بترشيح الرجال بدلًا من النساء، وهو ما يعيد إنتاج الهيمنة الذكوريّة على الفضاء العام.

قد تُعدّ سارة الشريف نموذجًا معبّرًا عن هذه التركيبة. فهي رئيسة جمعيّة ناشطة بين جبل محسن وباب التبّانة، وقد أثبتت التزامًا في العمل الإنمائيّ والأهليّ، عبر مختلف الاستحقاقات التي عرفتها طرابلس، ما أكسبها ثقةً وشعبيّةً لافتة، تجاوزت الانقسامات السياسيّة والطبقيّة والثقافيّة.

كانت الشريف مطروحة كخيار جدّي لخوض الانتخابات، لكنّها تراجعت في مرحلة أولى عن الترشّح بسبب القيود القانونيّة التي تمنع ترشّح الأشقّاء ضمن المجلس البلديّ، في وقتٍ كان شقيقها، السياسيّ الدكتور خلدون الشريف، بصدد تشكيل لائحة توافقيّة لم تكتمل.
وفي مرحلة لاحقة، حسمت الشريف قرارها بعدم الترشّح، وكان “غموض التحالفات” المصطلح الذي ردّدته مرارًا في الفيديو الذي نشرته عبر صفحتها، مستعرضة فيه الأسباب التي دفعتها إلى هذا التراجع.

عوامل ثقافيّة مركّبة

أخيرًا، وبما أنّ الصور النمطيّة كثيرًا ما تتحكّم في ردود فعل الجمهور، لم يكن مستغربًا أن تُعلّق خسارة النساء في الانتخابات على شمّاعة “الطابع المحافظ” لطرابلس، وهو تأويل ساد خصوصًا لدى المتابعين من خارج المدينة.

رويدة الرافعي مرشّحة في طرابلس

غير أنّ تجربة المرأة الطرابلسيّة في العمل السياسيّ تُثبت خلاف ذلك، إذ تحظى بقبول مجتمعيّ وشرعيّة شعبيّة. وأقرب الأمثلة رافق الاستحقاق الانتخابيّ نفسه، حين تولّت القائمقام إيمان الرافعي، بصفتها أمينة سرّ محافظة الشمال، مهام المحافظ رمزي نهرا بعد إقالته، وحازت تأييدًا ملحوظًا، ولم ينغصّه كونها امرأة.

وليست الرافعي منقطعة عن تراث قياديّ لنساء طرابلس، وقد تعزّز ضمن البنية المتديّنة والأكثر تحرّرًا أيضًا. ففي طرابلس خاضت الراحلة الدكتورة منى يكن، زوجة القياديّ الإسلاميّ فتحي يكن، الانتخابات النيابية العام 1996 بوجه الجماعة الإسلاميّة وتحالفاتها، معبّرة عن نموذج المرأة المستقلّة سياسيًّا من داخل الخيار المتديّن ذاته، وأدارت جمعيّات ومؤسّسات تربويّة. وعلى طرف النقيض، برزت نواةٌ تقدّميّة للأفكار الشيوعيّة واليساريّة في طرابلس، يصعب تأريخها دون ذكر الدكتورة نهلا الشهّال، التي لم تتردّد في حمل السلاح، وتمتلك مكانة فكريّة واحترامًا في وجدان الطرابلسيّين.

لا نساء ببلديّة طرابلس

إنّ هذا الامتداد القياديّ لنساء طرابلس، وورد منه مثلان ضمن سجلّ حافل بالنماذج، يفرض عدم الاكتفاء بالعوامل الآنيّة لمراجعة حضور المرأة في انتخابات طرابلس، بل إنّه يمتلك عناصره الأصيلة والمستجدّة الجديرة بالتحليل. وأكثرها أهمّيّة ربّما تكون حظوظ المرأة في تحقيق الحيثيّة الانتخابيّة إن لم تنتمِ إلى عائلات “عريقة”، في مدينة متمسّكة بالسلطة الموروثة لعائلات محدّدة، وكذلك تأثير التديّن على طرابلس وخياراتها في القيادة، ومحدّداتها الخاصّة بالنّساء.

تنجلي من هنا ضرورة تقييم الخطاب النسويّ المتصاعد، لا من حيث مشروعيّته، بل في ما يتعلّق بالأولويّات والإنفاق وأدوات الترويج للصواب السياسيّ، والقاضي بوجوب انخراط المرأة في مختلف مناحي الحياة العامّة. وليس أدلّ على هذه الحاجة، تعليق ساخر لمواطن كتب على صفحته “لا نساء في مجلس بلديّة طرابلس، غدًا سيعقدن طاولة مستديرة عن الجندريّة”… وأيّده كثيرون.
لكنّ السخرية، وإن كانت مردودة، تطرح إشكاليّة حقيقيّة: كيف يمكن للخطاب النسويّ أن يغيّر المعادلة الانتخابيّة، إذا كان لا يزال يُقرأ من قطاعات واسعة كترف نظريّ أو نشاط موسميّ؟ هنا، التحدّي لا يقتصر على مشاركة النساء، بل يشمل كسب ثقة الشارع، وفرض مشروعيّة التمثيل، لا بالتجميل، بل بالفعل السياسيّ القادر على المنافسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى