قاصرات بلغنَ الأمومة بالإكراه والنتيجة “ولد يربّي ولد”

لطالما عُدّت قضايا النساء في أسفلِ سلّم الأولويّات على الأصعدةِ كافّة، سواء في العمل التشريعيّ أو لدى المرجعيّات الدينيّة. تقمع النساء أنفسهنّ لإقرار حقوقهنّ التي ينصّ عليها الدستور اللبنانيّ والقوانين، والشرع الدوليّة تِبعًا لنصوص واتّفاقيات دوليّة تتعلّق بالمرأة والطفل.

وفي وقت حسّاس وأولويّات مغايرة عند صنّاع القرار في لبنان، والتوتّر المتصاعد في الجنوب، والأزمات السياسيّة والماليّة في البلد، فإنّ أيّ حديث يخصّ النساء ينطبق عليه مقولة “هلّق مش وقتن”. لكنّ التجمّع النّسائيّ الديمقراطي أعاد إلى الواجهة الحديث حول تزويج الأطفال أو القاصرات في لبنان، بإطلاقه الدراسة الوطنيّة حول تزويج الأطفال البنات في لبنان، حيث تشكّل الأرقام الواردة في متن الدراسة صدمة لناحية تزايد نسب تزويج القاصرات في لبنان عن آخر دراسة أعدّت في العام 2016.

جانب من الحضور خلال إعلان الدراسة للتجمع النسائي الديمقراطي
زوجوني كنت طفلة

وفي الوقت الذي تسعى الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة والدينيّة إلى إخفاء الأرقام، ترتفع في المقابل أصوات نساء تحت الظلّ وفي أسماء مستعارة تتحدّث عن أحوالهنَ ومعاناتهنّ مع الزواج المُبكّر. تتمنّى الشابّة عبير (اسم مستعار) من منطقة البقاع أن يعود بها الزمن إلى الوراء. تروي تجربة زواجها المبكر وهي في سنّ الرابعة عشر من عمرها. تقول لـ”مناطق نت”: “دفعتني الظروف الاجتماعيّة وانفصال والدي إلى قرار الارتباط  والزواج بابن خالتي، فتركت مقاعد الدراسة وكنت متفوّقة وانتقلت إلى بيتي الزوجيّ، كنتُ طِفلة أحاول الهرب وأرى في الزواج نوعًا من الاستقرار والراحة”.

مضى على زواج عبير ست سنوات، أنجبت طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات، وتتابع: “كنت أعيش أحلامًا ورديّة وفكرة الزواج المتواجدة في قصص الأميرات والمسلسلات، وجدت نفسي طفلة لديها مسؤوليّات عديدة وأكبر من عمري، في ست سنوات كبرت ستين عامًا، لكنّ ندمي لن يفيد الآن بوجود ابنتي؛ واجهت مشاكل زوجيّة مع زوجي وعائلته ولا أستطيع أن أتّخذ قرار الطلاق مخافة أن أخسر ابنتي”.

لطالما تردّد النساء بعد خوضهنّ تجربة الزواج والمشاكل التي يواجهنها، أنّ فكرة الزواج يلزمها نضجٌ فكريّ وجسديّ ونفسيّ تخسرها القاصرات اللواتي أجُبرن أو اخترنَ الزواج. إذ تتمنى عبير لو أنّ أحدًا نصحها بعدم الزواج، وتحاول في كثير من الأوقات أن تلوم أُمّها على عدم ثنائها عن ذلك، “كلّ مرة بفتح الحديث مع أمّي منتخانق، ولكننّي اليوم أحاول تقبّل الوضع من أجل تأمين نوع من الاستقرار لابنتي”. وتردف عبير بحدة شرسة: “مش رح أقبل تتزوّج ابنتي في عمر صغير، ورح أحميها لتكمّل تعليمها وتصبح ناضجة لمواجهة الحياة”.

أخَوَاته كنّ يضربنني

من البقاع إلى طرابلس، نجت رنا (اسم مستعار) من تجربة زواج رأت في خلالها شتّى أنواع العنف، “تزوّجت من ابن عمي وعلى أساس إنّو بيحبني، واقتنعت بالزواج في عمر الـ13 عامًا لرغبة أبي من الزواج من ابن العيلة ومش من غريب”.

شهدت عبير خلال سنوات من زواجها في الغربة عنفًا زوجيًّا وعائليًّا، “حتّى أخواته البنات كنّ يضربنني”. حاولت عبير الصبر والصمود مدّة ست سنوات وأنجبت طفلةً. وتكمّل قصّتها: “أحسّ أهلي أنّي رح موت وحاولوا مساعدتي كي أطلّق وارجع إلى بيت أهلي، وعندما حصلت على الطلاق بقيت ابنتي مع طليقي وعائلته، وقعدت (بقيت) سنين ما شوفها”.

تبلغ عبير 27 عامًا وطفلتها 11 عامًا، استطاعت في السنوات الأخيرة من التواصل معها ورؤيتها بين الفينة والأخرى، حينما يأذن أهل طليقها. عادت إلى مقاعد الدراسة، وتنهي حاليًا سنتها الأخيرة في التعليم المهني وستتوجّه إلى الجامعة، العام المقبل.

نجت عبير من تجربة زواج فاشلة، إذ كانت عائلتها مساندة وداعمة لها كي تعود إلى حياتها الطبيعيّة وتكمل مسيرتها التعليميّة، لكنّ هناك نسوة أخريات لم يحظين بالدعم الذي نالته عبير، فرضخنَ وتأقلمنَ مع العنف وعدم قدرتهنّ على تقبّل فكرة الطلاق في مختلف البيئات الاجتماعيّة وخصوصًا الريفيّة منها”.

15 إلى 30 بالمئة يتزوّجن قاصرات

تعرض رشا وزنة، مسؤولة الحملات والتواصل في التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ لـ”مناطق نت” أرقام الإحصاءات في الدراسة فتكشف “أن 20 بالمئة من مجيبات الدراسة تمّ تزويجهنّ تحت سن الـ 18، و10 بالمئة منهنّ ترواحت اعمارهنّ بين عمر 13 و15 عامًا”. وتوزّعت نسب تزويج الأطفال في مختلف المحافظات اللبنانيّة على الشكل الآتي: 15 بالمئة في محافظة جبل لبنان، و25 بالمئة في جبل لبنان، و25 بالمئة في شمال لبنان، و27 بالمئة في عكار، و17 بالمئة في الجنوب، و23 بالمئة في النبطية و29 بالمئة في البقاع. أمّا أعلى نسبة تزويج القاصرات فكانت في بعلبك- الهرمل إذا بلغت 31 بالمئة. وبالتالي سجّلت النسبة الأدنى في بيروت وبلغت 10 بالمئة.

و كشفت الدراسة أنّ من بين اللواتي تم تزويجهنّ دون سن الـ18 عامًا، كانت نسبة 45 بالمئة من الجنسيّة السوريّة، و36 بالمئة من الجنسيّة اللبنانيّة، و20 بالمئة ممّن يحملن الجنسيّة الفلسطينيّة.

من هنا تقول وزنة: “تتوافق ظاهرة تزويج القاصرات في لبنان وتترافق مع اللاجئات السوريّات والفلسطينيّات، لكن  الدراسة أظهرت تزايُدها في النسيج اللبناني، ويجب عدم رمي المسؤوليّة والتهم تجاه المجتمعات المهمّشة”.

رشا وزنة مسؤولة الحملات والتواصل في التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ

وتلفت وزنة إلى أنّه “في آخر تقرير لمنظّمة اليونيسف، كانت نسبة تزويج القاصرات في المجتمع اللبناني 6 بالمئة لترتفع إلى 20 بالمئة وهذا أمر مقلق، يعرّض حياة الأطفال البنات إلى خطر الموت والعنف الدائم. كما لا يمكن إغفال ترك الفتيات تحصليهنّ العلمي، إذ إنّ 56 بالمئة من الفتيات خارج النطاق التعليميّ، ما يدلّ على علاقة وثيقة بين التسرُّب المدرسيّ وتزويج القاصرات في لبنان”.

نضال لإنهاء تزويج الأطفال

تأتي دراسة التجمّع النّسائي الديمقراطي ضمن حملة (#مش\_قبل\_الـ18) بعد نضال استمرّ سنوات من أجل إنهاء تزويج الأطفال البنات، وإقرار قانون تحديد سنّ الزواج في لبنان. فالتجمّع كان قد أعدّ اقتراح “قانون حماية الأطفال من التزويج المبكر” بالتعاون مع نخبة من القضاة والمحامين، وتمّ تبنّيه من قِبل النائب السابق إيلي كيروز وتقديمه إلى المجلس النيابيّ في شهر آذار من العام 2017.

وكذلك تبنّيه للمرة الثانية من قِبَل النائب جورج عقيص في المجلس النيابيّ الحاليّ، وقد أحال رئيس مجلس النوّاب نبيه بري اقتراح القانون إلى لجنة الإدارة والعدل لمناقشته. وتمّت مناقشة القانون وإحالته إلى لجنة حقوق الإنسان النيابيّة التي بدورها أقرّته من دون استثناءات في أيلول 2023، وأعادت إحالته إلى لجنة المرأة والطفل النيابيّة. وتلفت وزنة إلى “أنّنا مستمرات لإقرار القانون في الهيئة العامة لمجلس النوّاب، ليكون حدثًا مفصليًّا في النضال النسويّ”.

أشارت الدراسة إلى أنّ 59 بالمئة من المجيبين والمجيبات لا يعلمون بوجود أيّ قوانين أو لوائح محدّدة تتعلّق بالزواج دون سنّ 18 عامًا. وقد يُعزى ذلك إلى عدم وجود قانون محدّد يتناول تزويج الأطفال البنات في لبنان. وأظهرت الدراسة أن 50 بالمئة من المجيبين يعتبرون أنّه من الهامّ جدًّا تحديد سنّ أدنى قانونيًّا للزواج.

أشارت الدراسة إلى أنّ 59 بالمئة من المجيبين والمجيبات لا يعلمون بوجود أيّ قوانين أو لوائح محدّدة تتعلّق بالزواج دون سنّ 18 عامًا. وقد يُعزى ذلك إلى عدم وجود قانون محدّد يتناول تزويج الأطفال البنات في لبنان.

آثار نفسية وجسديّة

إذا كانت الدراسة لم تشِر إلى الآثار النفسيّة والمجتمعيّة على الأطفال البنات أو القاصرات، تتطرّق إليها المستشارة الاجتماعيّة في قسم مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعيّ في التجمّع رانيا ملّا في حديثها لـ”مناطق نت” فقالت: “هناك تأثيرات كبيرة وسلبيّة على صحّتها النفسيّة والجسديّة، ناهيك بالآثار التي قد تنتج لدى إنجابها أطفالًا، إذ يصعب عليها أن تقرّ بالعنف الأسريّ الذي قد تتعرّض له، لأنّها لا تملك الوعي الكافي، وتُجبر على السكوت كون القوانين المرعيّة الحاليّة لا تنصفها ولا تحميها”.

وتضيف ملّا: “هناك تداعيات عديدة لتزويج القاصرات ولا سيّما في حالات الاغتصاب الزوجيّ التي قد تتعرّض لها، ممّا يشكّل لدى كثيرات صدمات ما يُعرف بالتروما، والاكتئاب والقلق وعدم قدرتها على النوم تجاه ما قد تعانيه من إكراه في العلاقة الجنسيّة، وغياب الدعم الأسريّ والاجتماعيّ اللازمين”. وتعطي ملّا مثلًا، “عادة ما تكون الطفلة هاربة من ظروف وضغوطات اقتصاديّة من بيت أهلها، فتصدم بأن الواقع الزوجيّ للقاصرات يجعلها عرضةً لأزمات أخرى ليست فقط ماليّة”.

وفي حين يعدّ زواج القُصّر والقاصرات من الأطفال ظاهرة شاذّة في المجتمع تنظر إليه الشرع القانونيّة في العالم بوصفه جريمة اغتصاب. وفي المجتمع اللبناني تستحيل محاولات قمع الظاهرة لكونها ترتبط بقوانين المحاكم الشرعيّة والروحيّة، لا بقانون أحوال شخصيّة مدنيّة، تندرج تحت مظلّته القوانين التّي تنظّم سنّ الزواج. وتؤكّد المستشارة الاجتماعيّة، “لا يمكننا أن نشجّع على الجريمة بأيّة طريقة، ولا يجب أن نحكم على  القاصرات  المتزوّجات بالإعدام مدى الحياة، في وقت يجب أن يكنّ في عمر اللعب والتعلّم والتطوّر، لا أن يكنّ ولدًا عم يربّي ولدًا”.

قوانين دينيّة واستثناءات

يكرّس سنّ الزوّاج في لبنان التّمييز بين النّساء بحسب الطوائف: 18 سنة عند السّنّة، وهذا التّقدّم الأخير أحرز في أيّار/مايو2021. و18 سنة لدى الرّوم الأرثوذكس، و17 سنة عند الدّروز، علمًا أنّه يمكن تزويج القاصر في سنّ الـ15 لدى الطوائف الثلاث بوجوب استثناءات، فيما هو 14 سنة لدى الكاثوليك. أمّا الطّائفة الشّيعيّة، فلا تزال تتمسّك بسنّ الـ9 سنوات لتزويج الفتاة، وهو الأدنى. وفي الوقت نفسه، حدّدت دول عربيّة السن الأدنى للزواج بـ18 سنة، مع سماح بعضها باستثناءات محدودة، وهي: السعوديّة، الأردنّ، والإمارات العربيّة المتّحدة، تونس، الجزائر، العراق، عُمان، ليبيا، والمغرب.

في المقابل شكّكت الدكتورة والأستاذة في علم الاجتماع في الجامعة اللبنانيّة ريما نعمة بأرقام الدراسة، وقالت في حديث لـ”مناطق نت”: “بكلّ وضوح زواج القاصرات في لبنان لا يرقى إلى ظاهرة، لا سيّما مع التطوّر المجتمعيّ على صعيد الفتيات والشابّات اللبنانيّات، في حين أنّها تعدّ ظاهرة في مجتمعات اللاجئين لا سيّما السوريين”.

طفلة بجسد امرأة

وتضيف: “تسجّل معدلات الزواج انخفاضًا جرّاء الأزمة الاقتصاديّة، وتبدّل مفهوم الزواج لدى المجتمعات خصوصًا في المدن، ومن خبرتنا وعملنا في علم الاجتماع، فإنّ معدل الزواج الطبيعيّ اليوم للفتاة أصبح بين أعوام الـ25 والـ28 عامًا، إذ تغيّر نمط تفكير المجتمع، فتضاءلت النسب التفاوتيّة في المجال العلميّ بين الرجل والمرأة، وباتت الأخيرة معيلة لأسرتها ومصدر دخل أساس لدى زواجها”.

لا تهدف نعمة من خلال ذلك إلى إطلاق تهم تجاه العمل النسائيّ في لبنان، إذ تقول: “إنّ هناك معاييرَ للبحث والإحصاء الاجتماعيّ، ومثل هكذا دراسات يجب أن توجّه مباشرة إلى رجال الدين الذين لا يحضرون في مثل هذه الدراسات”. وتشير “إلى أهمية الترابط القويّ للثقافة المجتمعيّة مع الأعراف والدّين الذي يشجّع على الزواج بسنّ مبكر، لكي يكون هناك “كونترول” من علماء الدين في الطوائف كافّة، لإقرار سنّ للزواج”.

وبالرغم من تضاؤل النسب التفاوتيّة في المجال العلميّ بين الرجل والمرأة، فإنّ الدكتورة نعمة تعود وتضيء “على الثقافة المجتمعيّة التي لا تزال راسخة في كثير من المناطق، وخصوصًا الطرفيّة منها، حيث لا ترحم تلك الثقافة المرأة في جوانب حياتها كافّة، وتجعلها تابعة طوال ذلك، “فقرار حياتها يكون لوالدها وأخيها، ومن ثمّ للزوج، وتكون المرأة هي الحلقة الأضعف”.

وتختم: “تتبع ذلك آثار نفسيّة، كونها طفلة تعيش بجسد امرأة، سواء تعرّضت للعنف أو لم تتعرض، فهي لا تعيش عمرها، وتعاني من طمس لشخصيّتها ومشاعرها، فهي تكبر قبل أوان النضوج النفسيّ والجسديّ، وستحمل مع رواسب نفسيّة يكون لها انعكاس على شخصيّتها وتشكّلها وتجعلها تعيش في صراع مع الذات قبل الصراع مع محيطها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى