أطفال لبنان ألَمٌ يختبئ خلف الدفاتر بسبب ضغوط الحرب

بين زوايا الصفوف الدراسيّة في لبنان، لا يختبئ فقط ضعف البنية التحتيّة أو انقطاع الكهرباء، بل ثمّة وجع أعمق لا يُرى بالعين. فبين الدفاتر الممزّقة وحقائب المدرسة الثقيلة، يحمل كثير من الأطفال أعباءً نفسيّة تفوق أعمارهم الطريّة بكثير. القلق والخوف من الفشل، وضغوط الأهل، والأزمات المتلاحقة حولهم، كلّها تحوّلت إلى “أصوات خافتة” تملأ المدارس، لكن قلّ من يسمعها. فخلف كلّ ابتسامة متعبة، طفل يحاول أن يتعلّم على رغم الحرب اليوميّة الدائرة داخل رأسه الصغير.
بعد عامٍ، أو عامين، على التصعيد العسكريّ الإسرائيليّ في لبنان، ما زال أكثر من82 ألف مواطن نازحين، من بينهم أكثر من28 ألف طفل يعيشون في خيم وملاجئ موقّتة، محرومين من مدارسهم وأصدقائهم ومن أبسط مقوّمات الطفولة، بحسب تقرير Save the Children (2024) ، فالمشكلة لم تعد فقط في غياب التعليم، بل في تآكل الإحساس بالأمان، وهو الركيزة الأساس للنموّ النفسيّ السليم.
الحال النفسيّة عامل حاسم
وفي تقرير صادر عن الأمم المتّحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، وُصفت معاناة الأطفال في لبنان بأنّها “تطبيع صامت للرعب”، وأشار المتحدث باسم “اليونيسف” جيمس إلدر إلى أنّ “العلامات المزعجة للاضطراب العاطفيّ أصبحت واضحة بشكل متزايد بين الأطفال، في وقتٍ يتزايد فيه عدد القتلى من دون أيّ استجابة حقيقيّة من أصحاب القرار.”

تشير الأبحاث التربويّة الحديثة إلى أنّ الأداء الأكّاديميّ يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالحالة النفسيّة للطلاب. وتؤكّد الأستاذة وداد فاضل عبّاس في دراستها (قسم علم النفس التربوي– الجامعة اللبنانيّة، 2022) أنّ “الحال النفسيّة هي العامل الحاسم في تفوّق الطالب أو فشله؛ فكثير من الطلّاب ذوي القدرات المتوسّطة تفوّقوا بفضل توافر ظروف نفسيّة مريحة، بينما يعاني المتميّزون في بيئات مضطربة من القلق والإرهاق العقليّ.”
وتضيف دراسة “معلوف وشركائه” في سنة 2022، أنّ الأطفال الذين يعيشون في بيئات غير مستقرّة نفسيًّا يعانون من ضعف التركيز والذاكرة والقدرة على التخطيط، وهي مهارات أساسيّة للنجاح الدراسيّ.
قلق وحزن واكتئاب
أمّا استطلاع اليونيسف خلال كانون الثاني (يناير) الماضي، فأظهر أن 72 في المئة من الأهالي أفادوا بأنّ أطفالهم يعانون من قلق أو توتّر، فيما قال 62 في المئة إنّهم يشعرون بالحزن أو الاكتئاب، وهي نسب ارتفعت بشكل كبير مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب في العام 2023.
وعلى رغم كلّ الصعوبات، تبرز مبادرات محلّيّة ودوليّة تعمل على التخفيف من معاناة الأطفال. ففي بعض المدارس الرسميّة، خصّصت إدارات الصفوف زوايا للراحة النفسيّة، يُسمح فيها للتلاميذ بالرسم أو التحدّث بحرّيّة أو اللعب لتفريغ مشاعرهم. هذه الخطوات الصغيرة ربّما لا توقف الحرب، لكنّها تمنح الطفل فرصة لاستعادة التوازن.
72 في المئة من الأهالي أفادوا بأنّ أطفالهم يعانون من قلق أو توتّر، فيما قال 62 في المئة إنّهم يشعرون بالحزن أو الاكتئاب
وتوضح الباحثة التربويّة سمر حيدر في حديث إلى “مناطق نت” أنّ “العلاقة بين العاطفة والذاكرة وثيقة جدًّا، فالطفل الذي يعيش في خوفٍ دائم يجد صعوبة في تخزين المعلومات واسترجاعها.” هذا يفسّر ضعف التركيز وتدنّي الأداء المدرسيّ لدى عديد من الطلّاب اللبنانيّين على رغم امتلاكهم قدرات ذهنيّة عاليّة، لأنّ عقل الطفل المشغول بالخوف لا يمكنه أن يتعلّم بفاعليّة؛ فطاقته النفسيّة موجّهة نحو البقاء لا الفهم.
أنشطة للتفريغ النفسيّ
من بين المبادرات القليلة التي لاقت صدى إيجابيًّا، برزت تجربة ثانويّة “السيّدة للراهبات الأنطونيّات” في النبطية، التي نظّمت بعد الحرب سلسلة من أنشطة “التفريغ النفسيّ” للأطفال، تضمّنت الرسم، والمسرح التعبيريّ، وحلقات الحوار الجماعيّ بإشراف تربويّين ومتخصّصين.
تقول إحدى القيّمات على النشاط: “من خلال الرسوم والكلمات، عبّر الأطفال عن خوفهم وغضبهم، وبدأوا تدريجًا يستعيدون الأمل والثقة.”
هذه المبادرة كانت نموذجًا ناجحًا في الجنوب، لكنّها تبقى استثناءً نادرًا. فمعظم المدارس اللبنانيّة تفتقر إلى مثل هذه البرامج بسبب غياب التمويل، ونقص الكوادر النفسيّة، وضعف التوعية لدى الإدارات والأهالي.

وقد أكّدت اليونسكو ووزارة التربية اللبنانيّة في تقريرهما المشترك العام 2024 أنّ “غالبيّة المدارس لا تدمج الصحّة النفسيّة في مناهجها أو أنشطتها على رغم ارتفاع الحاجة إليها”.
ضرورات لا بدّ منها
تُظهر دراسة عبيد وشركاؤه في سنة 2022 أنّ أكثر من 90 في المئة من الأطفال ممّن يحتاجون إلى دعم نفسيّ في لبنان لا يحصلون عليه. ولذلك، فإنّ إدماج خدمات الدعم النفسيّ في المدارس لم يعد رفاهيّة، بل ضرورة، عبر:
1. تعيين مستشار نفسيّ في كلّ مدرسة رسميّة.
2. تدريب المعلّمين على مهارات التوجيه النفسيّ الأساسيّ.
3. إقامة شراكات بين وزارة التربية والمنظّمات المحلّيّة.
4. تعميم نماذج ناجحة مثل مبادرة راهبات النبطية، على مدارس أخرى.
5. إطلاق حملات توعية وطنيّة حول الصحّة النفسيّة للطفل، بمشاركة الإعلام والمؤسّسات التعليمّية.
مقاومة بالأمل
على رغم الظلمة، لا يزال في لبنان من يقاوم بالأمل. فالطفل الذي يرسم شمسًا على دفتره وسط العتمة لا يرسم حلمًا وحسب، بل يعبّر عن مقاومة صامتة ضدّ الانكسار. هو يقول للعالم: “أنا هنا، أريد أن أعيش وأتعلّم وأحلم.”
حين يختبئ الألم وراء الدفاتر، يصبح التعليم فعل بقاء، لا مجرّد تحصيل علميّ. إنّ حماية الأطفال من الضغط النفسيّ واجب وطنيّ وإنسانيّ، لأنّ جيلًا مثقلًا بالخوف لن يبني مستقبلًا آمنًا.
ولعلّ أصدق ما يختصر الحقيقة قول “اليونيسف:” “لقد سرقت الحرب في لبنان الطفولة والمستقبل والحياة، ولا ينبغي لأيّ طفل أن يدفع ثمن العنف.”
إنّها ليست مجرّد عبارة، بل دعوة عاجلة لاستعادة الطفولة من بين الركام، ومنح كلّ طفل لبنانيّ حقّه في الأمان… قبل أن نطلب منه أن يحفظ الدرس.



