الصداقة والأختيّة في بيوت بيروت ومشقّات السكن الجماعيّ

لعلّه مألوفٌ لكم (أنتنّ)، أن تقرأن رثاء أشخاص، لكن أعتقد أنّ رثاء الأمكنة والبيوت تحديدًا، لم يأخذ حقّه في الظهور.

لذا أرثي لكم (أنتنّ) ولي، كلّ البيوت التي سكنتُها في بيروت، المدينة التي لا تعرف قانون سكنٍ عادل ولا حقّ مستأجرة. إيمانًا منّي بجماعيّة التجربة. وأنا بعيدةٌ بخطوة واحدة عن ترك بيروت أبدًا بعد خمس سنوات ونيّف من الصراع معها، أجلس في البيت ما قبل الأخير وأكتب.

تقصّدتُ أن أكتبُ قبل المغادرة، لأنّني ربّما، أُقرّر محو كلّ ما سبق من عذابات البيوت في ذاكرتي، وترك مساحة لتذكُّر كلّ جميل فقط. لذا هذا نصٌّ للتوثيق، لأقول شكرًا لكلّ النساء والأشخاص اللواتي والذين ساندنني وساندوني في هذه الفترة، للأختيّة التي فهمتُها، لذرف دمعة، ولفهمٍ أعمق للصداقة من البيوت.

سَرَقت بيروت صوتي، قُدرتي على الكلام. كتَمَت بيروت على نَفَسي، أخذت منّي احتمال الصراخ وأَبقت على صوتٍ خفيف من النواح عند البكاء، غير مسموع، غير مرئيّ، كوجودي هنا. أستعملُه الآن لأن لا خيار آخر ضمن حدودها.

أخيرًا، بدأتُ أرى العالم كعلاقةٍ تأجيريّة متفاوتة القوى بين الأطراف وغير عادلة. ولم أعد أرى أزمة السكن كأزمة نقرأ عنها في الأبحاث والإحصاءات، مستغربين صور التشرّد في التقارير الإخباريّة، وهذه “البيوت” الصغيرة أو “الكرافانات” في “الخارج”، أيُّ خارج؟ إنّنا نعايشه اليوم. نراه بأمّ أعيننا[1].

تنقّلت، لا بل زُرتُ في بيروت، تسعة بيوت قسرًا قبل وبعد استقراري فيها خلال فترات متفاوتة. وستّة بيوتٍ بعد انتقالي الكلّيّ إليها، سأحكي عن أربعة بيوتٍ أساسيّةٍ منها؛ إذ عمَّقتْ هذه البيوت فهمي نحو التجارب.

عشنا سنة كاملة من دون كهرباء، أو مصعد، أو غسّالة، كنّا نصعد تسعة طوابق على أقدامنا وكانت ريم تغسل لنا ثيابنا عند أهلها أحيانًا

بعد انتقالي إلى بيروت للدراسة، عشتُ سنةً كاملة في بيتٍ في منطقة العمروسيّة مع أمّي، إلى أن قرَّرت المالكة أنها ستزيد الإيجار فجأةً من دون مهلة أو إنذار خلال أكبر أزمة اقتصاديّة شهدها لبنان[2] وانهيار غير مسبوق لقيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار[3]. اضطرّت أمي أن تنتقل قسرًا إلى بيتٍ آخر، وأنا كذلك.

مدينةٍ لا تعرف العدالة المكانيّة

كان هذا بيتي الأوّل المستقلّ عن عائلتي بالكامل. كان فوايّيه للفتيات. وجدتُ فيه عائلةً أخرى، اكتشفتُ فيه الأختيّة وكوّنتُ أولى صداقاتي في المدينة. كنّا خمس نساء، تشاركنا مهام ومسؤوليّات البيت من طبخٍ وتنظيف وغيرها، من دون سلطة أو فرض أو تبجّح، تبادلنا أدوار الرعاية؛ كانت سناء تأخذ حرارتي وتُعطيني الدواء وتُحضّر لي حساءً ساخنًا كلّما مرضت، بينما كانت ديانا معالجتي النفسيّ، وريم مديرة البيت، وفاطمة الأميرة النائمة. تشاركنا تجاربنا، أكثرها خصوصيّةً وظُلمةً وسوداويّة، سمعنا ما سمعنا من الأسرار خلال سنتين: ما يُحكى بعد الثانية عشرة ليلًا، يُمحى بعد العاشرة صباحًا.

عرّفتْ ماريّا لوجونيز وپات روزل Rosezelle Pat and Lugones Maria الأختيّة بأنّها[4] “رابطة قرابة قائمة على المساواة”. كذلك أضافت كلينورا هدسون-وميز Weems-Hudson Clenora أنّ[5] “الأختيّة هي علاقة قائمة على المساواة في الأخذ والعطاء”.

تعلّمتُ منهنّ جميعًا، سمعنني وسمعتهنّ، عرفتُ الأختيّة قبل أن أقرأ عنها، مارسنا التضامن من دون أن نُدرك أنّه فعل تضامن، تقاسمنا الطعام والمصاريف، وقفنا في وجه المالكة سويًّا عندما أرادت أن تزيد الإيجار، ووصلنا إلى تسوية كي لا تزيد على واحدةٍ منّا ذات المدخول الأقلّ.

عشنا سنة كاملة من دون كهرباء، أو مصعد، أو غسّالة، كنّا نصعد تسعة طوابق على أقدامنا وكانت ريم تغسل لنا ثيابنا عند أهلها أحيانًا. حسّنّا ظروف البيت سويًّا. طالبنا بالكهرباء والمصعد، تقاسمنا سعر الغسّالة، مارسنا العدالة بيننا. سأظل ممتنّةً للبنات، وللبيت رقم واحد في حياتي.

الفواييه: إحكام السيطرة..

البيت رقم اثنان، كان فوايّيه أيضًا، اخترته على الطابق الثاني على رغم وجود مصعد، خوفًا من تجربة الطابق التاسع. كانت تجربتي الأولى للسكن في غرفةٍ وحدي من دون شريكة، لكن داخل بيت مشترك مُجدّدًا. استمتعتُ بالتجربة عند البداية، لكنّني سرعان ما لمستُ فرديّةً ما في البيت، لم آلفها.

حتّى عندما أردتُ تنظيف البيت، كانت واحدة من الساكنات تمنعني، بحجّة أنّها تقوم بالأمر وحدها منذ سنين، وسرعان ما بدَت عليها سمات التسلّط والسيطرة، على تحرّكاتي وأفعالي في البيت، شعرتُ كأنّي مراقَبَة، كلّما زارتني صديقة، هناك مَن ترصُد تحرّكاتها! قلقٌ على استهلاك المياه والكهرباء، قلق على كلّ شيء، على الرغم من أنّنا ندفع كلّ شيءٍ بالتساوي. كانت تعيش في هذا المكان مُنذ 13 عامًا، وتتنقّل بين شقق المالك نفسه.

يتحكّم المالك في بعض الأحيان بتحرّكاتك اليوميّة، متّى تعودين إلى البيت؟ مَن تستقبلين في الغرفة؟ كم تستهلكين من المياه للاستحمام؟

المستأجِرُ المؤجِّرُ والمالكُ المتحكم

لقد حوّل المالك هذه الشقق إلى “فوايّيهات” يؤجّر فيها السرير في الغرفة! وإذا أردتِ أن تستأجري الغرفة كاملة فستدفعين الضعف. في الفترة نفسها التي عشتُ فيها في هذا الفوايّيه، كنت أُكوّن معرفةً حول الحقوق السكنيّة وقانون الإيجارات في لبنان، وعلمتُ آنذاك، أنّ المالك مستأجرٌ أيضًا، يُقسّم الشقق إلى غرف ويضع سريرين في كلّ غرفة، ثم يؤجّر السرير! وهكذا تُصبح أرباحه أضعاف مضاعفة لقيمة بدل الإيجار من المالك الأساس، فعليًّا هو ليس مالكًا حتّى!

الفوايّيهات في بيروت تتغطّى تحت حُجّة الإيجار الموسميّ كي لا يُلزَم المالك بعقد إيجار يُضمَن فيه حقّ المستأجِرة باستدامة السكن[6]. حقيقةً لا يؤجّر المالك موسميًّا فكما ذكرنا هناك مَن سكنت مدّة 13 عامًا في الفوايّيه.

فبعد تقسيم الغرف، والتأجير، لا يذكر المالك أيّ عقد إيجار أو حتّى إيصال لدفع بدل الإيجار يُثبت أنّكِ سكنتِ هذه الغرفة، وهذا لضمان عدم وصولك إلى أيّ حقّ من حقوق السكن ولإحكام السيطرة.

يتحكّم المالك في بعض الأحيان بتحرّكاتك اليوميّة، متّى تعودين إلى البيت؟ مَن تستقبلين في الغرفة؟ كم تستهلكين من المياه للاستحمام؟ وغيرها من الأمور الشخصيّة. طبعًا هذا التحكّم ليس بريئًا، وليس سطحيًّا: تذكرين حينما كان والدكِ يقول لكِ أن تعودي إلى البيت قبل مغيب الشمس خوفًا من كلام الجيران وبائع الخضار والسمّان؟ هذه الحال عينها برأيي، مع تمديد وقت العودة إلى ما بعد مغيب الشمس بساعات عدّة! إنّه أوضح تجلٍّ للتحكّم، السيطرة وسياسة المراقبة. إنّه إعادة إنتاجٍ لأفعالٍ يمارسها النظام الأبويّ والرأسماليّ على أجسادنا عبر أدواته.

 البيت الأوّل نظريًّا

البيت رقم ثلاثة؛ “البيت” الأوّل المستقلّ تمامًا. عندما أُطلق صفة “البيت” على هذا المكان، أشعر بحاجة مُلحّة إلى وضع مزدوجين. لكنّني في لحظةٍ ما ظننتُ أنّه ربّما يكون خلاصًا، من السلطة والسيطرة في الأقلّ- لم يكن كذلك، ولا بيتٌ في بيروت كان كذلك-.

كان بيتًا أشبه بمفهوم الاستديو مع كيتشينت[7] الجديد في بيروت، لكنّه مع عقدٍ لمدّة سنة، يالحظّي السعيد!

أذكُر أنّه كانت هناك بقعةٌ وحيدة في الغرفة يدخلها نور الشمس، كنتُ أسترق الجلوس فيها أثناء ساعات الصباح الأولى قبل ذهابي إلى العمل. كان المطبخ صغيرًا جدًّا فلا أقدر على التحكّم بالأدوات فيه على الرغم من حجميَ الصغير. كان المالك لطيفًا للأمانة، وكان المالك اللطيف الوحيد الذي عرفته في بيروت. كنتُ أحلمُ بمطبخ القرية الواسع، ثمّ أستيقظ لأُحضّر الطعام في المطبخ الصغير نفسه عند الصباح التالي، قبل ذهابي إلى العمل. على أيّ حال، هذا كان “بيتي” الأوّل. حتّى لو وضعته بين مزدوجين.

الدفء فعل صداقة

البيت رقم أربعة. من السهل أن نرى الصداقة خارج حدود البيت، ومن الأسهل أحيانًا التعامل معها خارج هذه الحدود. لكن ماذا يحدث إن دخلت هذه الحدود؟ إذا أردنا أن نختبر الصداقة من البيوت نفسها، أيّ أن نتشارك تفاصيل الحياة اليوميّة، ونرى بعضنا بعدسة البيت، من داخل الجدران الموصدة، حيث نهرب حينما نريد الاختباء من ضجيج الخارج.

من البيت رقم ستّة أعود إلى البيت رقم صفر وأتوقّف أخيرًا عن العدّ. أغادر. أتحرّر من المدينة التي لا تعرف العدالة المكانيّة، لا تعرف حقّ مستأجرة ولا تعرفني

تُصبح الصورة قاتمةً أكثر، يظهر الآخر بكلّ أوجهه، ونظهر نحنُ له بكلّ أوجهنا التي لم يعرفها خارج حدود البيت.

في البيت لا أقنعة. يبدو الأمر جميلًا في الظاهر وربّما مريحًا، لكنّه غريبٌ حقًّا أن تتعرّى أمام الآخر، وقد يبدو أكثر غرابة لأنّه عُريٌّ أمام الذات، مرآةٌ أخرى تراك داخل حدود البيت، إنّها قريبة، وليست موضوعيّة، بل بَنَت عنك صورةً مُعيّنة. مُلاحظاتها وخيبتُها توقظك على أمورٍ لم تُسائلها في ذاتك.

العطاء فعل صداقة، أومن به، وأحبّ أولئك الذين واللواتي يُعطون. لكنّنا، ربّما لا نلحظُ النِعَم كلّما اعتدناها. بينما كلّما ابتعَدت، اختفت، نُدرك وقعَ وجودها السابق. كصوتٍ خافتٍ يُلقي تحيّة الصباح، كاطمئنانٍ عند المساء، ككوبٍ ساخنٍ من الزنجبيل والليمون عند المرض يحمل حُبًّا له قدرة الشفاء، كوصفة طعامٍ مازلنا نستعملها لا لطعمها، بل لتُذكّرنا بما مضى، بالنِعَم. الدفء فعل صداقة، قدرةُ البعض على خلق هذا الدفء في مساحة صقيع.

الصداقة فعل ثقة، معيارٌ نسبيُّ التعريف، لكنّه واقع، علينا فهمه في المعادلة.

المُسامحة فعل تفهّم، لكنّه ليس باستطاعة الجميع. أعتقد أنّ الصداقة مدخلٌ إلى المسامحة، إلى الفهم، وإلى التعلّم. والوعي إدراكٌ للموقف والفعل، محاولةٌ لإصلاحه أو العمل عليه. معقّدةٌ هي الصداقة من البيوت، لكنّي ممتنّةٌ لها، لكلّ الدفء الذي حَمَلَته، لكلّ الدروس التي علّمتني إيّاها، لكلّ هذا الحُبّ الذي أحمله في قلبي ولا أقوى حتّى اليوم على تخطّيه، فأقلّبه بين جدران ذاكرتي.

البيت رقم صفر

من البيت رقم ستّة أعود إلى البيت رقم صفر وأتوقّف أخيرًا عن العدّ. أغادر. أتحرّر من المدينة التي لا تعرف العدالة المكانيّة، لا تعرف حقّ مستأجرة ولا تعرفني. ربّما أعود، وربّما لن أعود.

أقول شكرًا لجسدي الذي تحمّل ما تحمّل، بينما انهرتُ أنا، أعتذرُ له عن كلّ الانتهاكات، عن كلّ النقلات والتنقّلات القسريّة التي تحمّلها. أقول شُكرًا، لكلّ مَن رافقنَني في رحلة البيوت القاسية، لكلّ مَن تقاسمن معي طعامهنّ، لباسهنّ وحُبّهنّ. أقول شكرًا للصداقة التي انتشلتني ورَمتني وعلّمتني مرارًا. أقول شكرًا للأختيّة التي حضنتني وكانت بجانبي دائمًا.

أقول شكرًا لصديقي في النادي الرياضي في كلّ مرةٍ قال لي فيها: “push” فحملتُ ثقل المدينة وكلّ البيوت فيها مع قلبي. أقولُ شكرًا للتجارب ولنفسي، أقول شكرًا لمرحلةٍ طويلةٍ من حياتي ومرحبًا بمرحلة جديدةٍ قديمة، مرحبًا بوقفة الصفر، بالأرض التي ربّتني، بالبيت رقم صفر، أعود إليه بعقليّةٍ جديدة، بامتنانٍ لم أفهمه سابقًا، بحُبٍّ لم أعرف كيف أستقبله. لكنّني اليوم شجرة تحاول التحرّر.

الهوامش

1. استديو أشغال عامّة، تداعيات الحرب الإسرائيليّة على لبنان: أزمة السكن تتفاقم وتدخل فصلًا جديدًا، 12 أيار 2025.
https://publicworksstudio.com/the-impact-of-the-israeli-war-on-lebanon/

2. الانهيار مستمرّ.. هل أهدر اقتصاد لبنان جميع فرصه بالنجاة؟، سكاي نيوز عربية، 15 تشرين الثاني 2023
https://www.snabusiness.com/article/1670455-%

3. المصدر نفسه، https://www.snabusiness.com/article/1670455-%

4. هالة ك. جمعة، رواية صداقات الإناث: الأختيّة في الموجة النسويّة الثالثة، Department of English and Comparative Literature, American University in Cairo، صفحة 149، https://www.jstor.org/stable/10.2307/27191285

5. المصدر نفسه، https://www.jstor.org/stable/10.2307/27191285

6. Guiding principles on security of tenure for the urban poor, Special Rapporteur on the right to adequate housing, United Nations, https://www.ohchr.org/en/special-procedures/sr-housing/guiding-principles-security-tenure-urban-poor 

7. مَن نقل المطبخ إلى غرفة النوم؟، مريم شعيب، استديو أشغال عامة، 13 آذار2025، https://shorturl.at/lTM2a

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى