“الصفيحة البعلبكية” تهجر متذوقيها وسعر الكيلو تضاعف 10 مرات

بعد تحليق أسعار اللحوم، لم يعد ذوي الدخل المحدود باستطاعتهم تناول الصفيحة البعلبكية. الأكلة التراثية التي يعود عمرها إلى أكثر من مئة عام، وشقت طريقها وذاع صيتها في كل لبنان لم تعد بمتناول الفم. أصبحت من الكماليات وربما ستصبح حكراً على المناسبات أو الأعياد إذا ما بقي للأفراح من مكان في بلاد تذوي وتحتضر.

غالباً ما تساهم الأكلات الشعبية والمحلية إلى جانب المعالم والعادات والتقاليد في صناعة الهوية الخاصة للمناطق والمدن والبلدات. وبالرغم من ضخامة حجار قلعتهم وأعمدتها الشاهقة، اختار البعلبكيون لـ “صفيحتهم” بأن لا يتجاوز حجمها حجم أصابع اليد الواحدة فكانت صغيرة ومنمنمة، مسيجة بحروف مضلعة تشبه إلى حد ما تيجان المعابد وزخارف الهياكل التي تنتصب في فناء قلعتهم، وربما للوعي الجمعي دلالات رمزية في ذلك.

الصفيحة البعلبكية وعلى صغرها ساهمت بنشر نكهة المدينة وطعمها الطيب، فكانت إلى جانب المهابة التي تُدخلها قلعتهم في نفوس الزائرين إليها، تحجز لها مكاناً مميزاً في أمعائهم أيضاً.

الصفيحة البعلبكية.. للميسورين فقط

شأنها شأن القلعة، تقدّم إسم “الصفيحة البعلبكية” على إسم المدينة فتخطت بطعمها ونكهتها بعلبك ولبنان، حيث حمل المغتربون طريقة تحضيرها معهم إلى مغترباتهم يصنعونها هناك ويفاخرون بها وبطعمها.

من موائد “بكوات” آل حيدر قبل مائة عام، شقت الصفيحة البعلبكية طريقها إلى كل لبنان، فأصبحت الأكلة الشهية التي تزاوج بين الأفراح والأتراح. إضافة لذلك، لا يمكن لزائر بعلبك أن لا يعرج على أحد ملاحمها لتناول الصفيحة. أصبحت طقساً ستكون معه الزيارة ناقصة من دون المرور بها والتنعم بمذاقها.

على موائد الميسورين

لا تكتفي الأزمة الاقتصادية بتغييرات حياتية وخدماتية بأحوال الناس، بل تعبث عميقاً بهوياتهم وتركيبتهم المجتمعية، فتبدل في سلمها وتحيل فقرائها إلى منازل أكثر فقراً، وتبعثر طبقتها الوسطى وتمعن فتكاً في كل شيء.

الصفيحة البعلبكية اليوم باتت حكراً على الأغنياء فقط بعد ارتفاع أسعار اللحوم. لم يعد لذوي الدخل المحدود طريقاً إليها. فقد حالت العملة الخضراء والسقوط المدوي للعملة الوطنية بينها وبين محدودي الدخل.

لم تعد الصفيحة البعلبكية كما كانته قبل الأزمة، يقول بسام كنعان صاحب ملحمة وفرن كنعان في بعلبك أنه للأسف لم تعد الصفيحة البعلبكية كما السابق، انخفض الطلب عليها بشكل كبير بسبب غلاء سعرها، الذي يعود من جهة لارتفاع أسعار اللحوم وهي بالعملة الخضراء، ومن جهة ثانية لارتفاع أسعار الغاز والمازوت لحاجات الأفران، مما أثر على السعر وبالتالي على حجم المبيع.

يبلغ سعر كيلو الصفيحة البعلبكية اليوم عشرة أضعاف سعرها في السابق. يشير كنعان أن سعر كيلو الصفيحة كان قبل الأزمة عشرون ألفاً، حيث بدأ هذا السعر بالتدحرج ليصل اليوم إلى مئتي ألف ليرة.

هوة سحيقة أصبحت تفصل بين قدرات الناس الشرائية ومتطلباتهم الحياتية. الارتفاع الكبير في سعر الصفيحة خير دليل على ذلك، وهو ما أدى إلى انخفاض الطلب بشكل كبير عليها، وهذا ما بينته الأرقام. وهي بحسب كنعان انخفضت حوالى السبعين في المئة، إذ كانت كمية المبيعات في ملحمته تصل إلى حوالى العشرين كيلو يومياً، بينما لا تتجاوز اليوم الستة كيلوات. كنعان قال إن الصفيحة البعلبكية لم تعد طعام عامة الناس ومحدودو الدخل وهي كانت كذلك، وإن حصلوا عليها مرة خلال شهرين يكون ذلك إنجازاً.

فالموظف الذي لديه عائلة متوسطة بحاجة إلى حوالى ٢ كيلو لإطعام عائلته سعرهم ٤٠٠ ألف ليرة. هذا المبلغ يشكل نسبة أساسية من راتبه، فكيف يأكل بقية الشهر؟!.

عابرة للمناسبات

زاوجت الصفيحة البعلبكية بين الأفراح والأتراح، فكانت حاضرة في كل منهما، لم تكن مجرد أكلة منزلية، بل كانت عابرة للمناسبات كافة وفي الإفطارات الرمضانية. يقول كنعان كان هناك طلبيات تصل إلى ٤٠ كيلو، اليوم هذا الرقم بات مستحيلاً، انخفضت نسبة تقديمها في المآتم فقد أصبحت خارج قدرة أهالي المنطقة.

جائحتان خرّبتا علاقة الصفيحة البعلبكية بمتذوقيها وطالبيها، الأولى صحية وتمثلت بكورونا والثانية إقتصادية وتمثلت بالانهيار المريع الذي يعيشه لبنان. الأزمتان تسببتا بانحسار الزوار عن بعلبك حيث تلاشى نهائياً خلال جائحة كورونا. وفي هذا الإطار يقول كنعان أنه كان يعتمد كثيراً على الزائرين للمدينة من المناطق اللبنانية كافة لا سيما الصيادين، وعلى البقاعيين القاطنين في بيروت حيث كان معظمعم يحملون معهم من بعلبك مؤونتهم من الصفيحة البعلبكية إلى بيروت أسبوعياً. اليوم، يتابع كنعان اختلف الوضع تماماً وانخفض المبيع إلى مستويات قياسية، حيث قارب ذلك الانخفاض نسبة التسعين في المئة.

ملاحم أقفلت

الارتفاع الكبير في الأسعار وانحسار الطلب على الصفيحة البعلبكية، أدى إلى إقفال العديد من الملاحم أبوابها، ومنها من له عمراً في المدينة وفي تحضير الصفيحة. يشير كنعان “لم يعد الربح هو المقصد، أصبح الهاجس هو الحفاظ على الرأسمال فقط، لافتاً إلى أن هناك ملحمتان إلى ثلاث ملاحم أقفلت في محيطه.

البائع يئن والشاري أيضاً، فالأزمة لم تميز بينهما وفرضت معياراً واحداً وهو “البقاء للأقوى”. يتحايل الناس على الأوضاع الاقتصادية الصعبة، فتارةً يقتصدون في مصروفهم ويوجهونها وتارة أخرى يحاولون الاستيعاض عن الضروريات ببدائل أقل كلفة. يقول أحد المواطنين أن اللحوم بمجملها أصبحت خارج الإمكانية، وبعدما كانت الأكثر تناولاً واستسهالاً، دخلت اليوم ضمن إطار سياسة الترشيد القصوى، إذ بات كيلو اللحم يوزع على “طبخات” عدة وعلى مدار أيام، مضيفاً “بتنا نخاف أن يأتي يوم لا يمكننا فيه شراء الخبز من شدة الغلاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى