ميثاق النساء لحنين الصايغ.. خصوصية المكان وناسه

منذ أن بدأ العرب تدوين ما يقولونه من شعر ونثر وأدب في ذاكرة العالم، احتلّ المكان حيّزًا مهمًّا في السياق، بدءًا من خاصيّة البكاء على الأطلال التي امتاز بها الشعراء العرب في العصر الجاهليّ، مرورًا بالوصف الذي نظّر له جماليًّا البحتريّ في العصر العبّاسيّ وصولًا إلى عصريّ النهضة والحداثة حيث طبع المكان شعرًا ورواية تأثيره على الحركة الأدبيّة بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وصلت إلى جعل النّصّ منبرًا للدفاع عن قضايا تحاكي العصر وتحثّ على الالتزام بها.

ولعلّ ما قاله الروائيّ الأردنيّ غالب هلسا في تقديمه لكتاب غاستون باشلار عن المكان يؤكّد ما سبق ذكره، فالنّص الأدبيّ الذي لا يتمتّع بمكانيّة محدّدة يفقد خصوصيّته الأدبيّة، وقد حرصت حنين الصايغ في روايتها البكر ميثاق النساء (دار الآداب 2023) – المتأهلة أخيرًا إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالميّة للرواية العربيّة- على تقدير مدى أهمّيّة خصوصيّة المكان وانعكاسه على العمل الأدبيّ، فالرواية تتناول الحياة داخل “مجتمع الدروز” الذي يعدّ بعاداته وطقوسه الدينيّة وأعرافه مثيرًا للفضول، ومحرّضًا على البحث عن تفاصيله وملامح هويّته.

حمل نصّ حنين الصايغ بُعديْن أساسيّين لا ثالث لهما، يتّسم البعد الأوّل (المناطقيّ) بالتغوّل في الأمكنة وارتباطها بالشخصيّة الأساس “أمل بو نمر” ابنة الشيخ علي بو نمر، والتي ترسم مسار حياتها وتحوّلاتها الشخصيّة، بدءًا من نشأتها، وصولًا إلى ما بعد طلاقها، أمّا البعد الثاني(السوسيولوجيّ)، فقد أظهرت الكاتبة خلاله الأعراف والتقاليد التي بني عليها هذا المجتمع، وكيف أنّ الصايغ وبشكل لاواعٍ، كتبت ذاتها وسيرتها على رغم أنّها أنكرت هذا الذوبان الذاتيّ الكلّيّ والشخصيّ في النّص، لتكون تجربتها موضع تنافس مع تجارب نسويّة ونسائيّة أخرى.

الكاتبة حنين الصايغ
بيروت والقرى الجبلّية وارتباطها بالشخصيّة

تبدأ حنين الصايغ سردها بالربيع والمدن، وهذه أوّل إشارة على تأثير المكان بالنّص، وتأثّر كاتبته به، وبلغة ذات إيقاع سريع، ومعجم سلس تكتب الصايغ ملامح قرية أمل بو نمر “عينصورة “، من دون أن تنسى مزج هذا السياق بالسلوكيّات الاجتماعيّة الخاصّة بأهل القرية وبالطائفة الدرزيّة.

تعكس الكاتبة تأثّر الشخصيّة أمل بو نمر، الفتاة التي وجدت نفسها ضمن عائلة درزيّة تتمتّع بخصائص دينيّة، وطقوس مختلفة عن محيطها، وهو ما جعلها تفكّر أوّلًا بسؤال واحد “أين أنا؟”، سؤال انعكس في أكثر من سياق في الرواية “لم تكن حوادث العنف والصراخ غريبة على بيتنا، ولكنّها بقيت غريبة عن وجداني” (ص18). هذا الاغتراب النفسّي الذي مهدّت له الكاتبة لتصف حال الشخصيّة وأحوال المحيطين بها، دفعها إلى الخروج نحو الفضاء الأوسع، أيّ القرية “عينصورة”، القرية الجبليّة الدرزيّة التي صوّرتها الصايغ على أنّها قرية تحتضن أقلّيّة دينيّة تمارس طقوسها الخاصّة وأعرافها وينتاب أهلها الذعر والخوف من الخطيئة إذا طرأ أيّ نوع من المصاهرة بين أحد أهلها و”الآخر” المرتبط بديانة أو طائفة أخرى.

عمدت حنين الصايغ إلى التدرّج في وصف هذه البيئة المكانيّة- الاجتماعيّة ما جعل النّص أكثر تماسكًا ومنحه نقطة قوّة عنوانها “التفرّد” لا سيّما على الصعيد الموضوعاتي، فالبيئة الدرزيّة قلّما تمّ تناولها مكانيًّا واجتماعيًّا في الأعمال الأدبيّة وبخاصّة الرواية، ومن النادر ما تمّ التطرّق إلى رمزيّة الأمكنة ودلالتها في العمق الدرزيّ.

“عينصورة”، القرية الجبليّة الدرزيّة التي صوّرتها الصايغ على أنّها قرية تحتضن أقلّيّة دينيّة تمارس طقوسها الخاصّة وأعرافها وينتاب أهلها الذعر والخوف من الخطيئة

تحرير الشخصيّة من أزماتها

ساعد الاسهاب حنين الصايغ في موضعيْن، الأوّل حين حمل السرد إشارات ومفاتيح مناطقيّة جغرافيّة، تجلّت من خلال رحلة أمل بو نمر من عينصورة إلى بيت زوجها سالم، الرجل الدرزيّ المحافظ الذكوريّ، الرافض لخروج المرأة نحو عملها وعالمها التعليميّ والمعرفيّ، وصولًا إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت، حيث بدأت أمل بو نمر تتناسى انتماءها الطائفيّ، محافظة على الخصائص الثقافيّة والتاريخيّة التي تربطها بالمكان.

ولعلّ المشهد أو السياق الذي جمع أمل بالأكّاديميّ حامد عبد السلام، الذي سيغدو في ما بعد زوج أمل، يثبت هذا التعلّق بالخصائص الدرزيّة الثقافيّة والمكانيّة البعيدة من قيود العادات والدين “هل تودّ أن تزور إحدى المقامات الدرزيّة معي؟ سأكون مرشدتك السياحيّة” (ص.255 – بتصرّف).

وقد اتّخذت الرحلة من بيروت إلى نيحا- الشوف حيث مقام النبي أيّوب وصولًا إلى الباروك والدامور، بعدًا عاطفيًّا معرفيًّا، جعل أمل تتمرّد على القيود الطائفيّة، لصالح الثقافة والمعرفة والانصهار العاطفيّ بينها وبين حامد، “على الرغم من علمي أنّ الذي أقوم به- على بساطته وبراءته يعتبر تخطّيًا للخطوط الحمراء في مجتمعي، إلّا أنّ شيئًا ما بداخلي جعلني أريد التمسّك بهذا المشوار بكلّ قوّتي” (ص.255). وهنا تتجلّى وظيفتا المكان المفتوح والمكان المغلق في النقّد وأبعادهما النفسيّة على الشخصيّة.

فالقرية “عينصورة بما تحتويه من بيت الأسرة ويحدّها بيت الزوج شكّلت موضع قيد واضطهاد لأمل بينما كانت “الرحلة” بين بيروت ونيحا والباروك والدامور ذات وظيفتين، الأولى مشاركة المتلقّي بمعلومات تحرّض على فضول استكشاف البيئة وهو تحدّ لأصولييّ الطائفة الدرزيّة الأحرص على جعل خصائصهم منغلقة ومحدودة الانتشار، وعلى الصعيد النصّيّ حرّرت الشخصيّة من أزماتها واستسلامها لعقد نفسيّة عدّة منها الاكتئاب والانهيارات العصبيّة.

ذوبان الذات في مجتمع النّص

نكرت حنين الصايغ في أكثر من حديث وندوة ثقافيّة، ارتباط النّصّ بشخصها وذاتها، على رغم وجود أكثر من مؤشّر في السرد يدلّ على ارتباط السياق بها مباشرة (عمر رحمة/ ألمانيا/ الجامعة الأميركيّة/ الطائفة…) لكنّ ذوبان الذات تجلّى في مكان آخر بعيدًا من تفاصيل الحياة الشخصيّة للكاتبة أيضًا، وذلك من خلال علاقة أمل بمحيطها، وتسمية الأمور المرتبطة بالسلوكيّات الفرديّة والإنسانيّة والدينيّة للدروز، بدءًا من المصطلحات والتمييز بين العقلاء والجهّال، بين الجسمانيّين والملتزمين أو (المشايخ)، التطرّق إلى كتاب الحكمة واستحالة الاطّلاع على ماهيّته إلّا إذا انتمت الروح كلّها للدين عبر الزيّ الدينيّ التقليديّ (الشروال والطاقيّة للرجال، والعباءة السوداء والملاءة البيضاء التي تغطّي وجه بعض ملامح المرأة)، تقديم المتّة كضيافة للإشارة إلى مدى موافقة أهل العروس على طلب العريس الزواج، رمزيّة النبي أيّوب لدى الدروز، معنى عبارة “الدروز سلسلة” وكيفيّة توظيفها في الحوارات وغيرها من المؤشّرات تؤكّد ارتباط حنين الصايغ بأمل بو نمر من جهة وارتباطها (أيّ الكاتبة) بنصّها.

كلّ هذه المؤشّرات منحت نصّ حنين الصايغ نقطة قوّة كونها الأعلم بدواخل هذا المجتمع، والأقدر على توصيفه وتسميته، وهو ما لم يتقدّم أحد على الأقل في عصرنا الحاليّ أدبيًّا على تقديمه، لنكون بذلك أمام مغامرة اجتماعيّة جديدة أخذتنا إليها الكاتبة لنرى ما تحاول المرأة الدرزيّة فعله من تمرّد ورفض للرضوخ والتأقلم مع السائد باسم الأمومة والأنوثة والأحكام الدينيّة.

يعدّ ميثاق النساء نصًّا تدفع عبره الكاتبة القارئ إلى المغامرة في زوايا جغرافيّة ومناطقيّة واجتماعيّة غير مألوفة، هو نصّ المرأة التي أرادت كتابة بيئتها وشخصيّتها وتحوّلاتها مثلما هي من دون زخرفة أو مواربة تاركة تجربتها الأولى رهن احتمالين: إمّا المنافسة مع التجارب النسائيّة النسويّة الأخرى بسياقات مغايرة أو استئناف ما بدأته ليصل القارىء إلى ما لا يعرفه دائمًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى