المياه في لبنان مدفوعة الثمن ولو كانت محمّلة بالسموم

فجأة استنفر الإعلام اللبنانيّ أخيرًا لينقل خبرًا عن تلوث محتمل في قنينة مياه معدنيّة، لكن غاب عن الإعلام نفسه المشهد الأوسع، ويتعلّق بالكارثة المائيّة في لبنان. المشكلة لا تقف عند حدود عبوة بلاستيكيّة تنقّلت على شاشات التلفزة، واستعرضت نفسها بأنّها الأنقى والأشهى والأصحّ، بل بما هو أعمق وأخطر بكثير، فهل من الطبيعيّ المتاجرة في مورد حيويّ وحياتيّ كالمياه، واعتباره سلعة بدل أن يكون حقًّا؟ وهل بات محتّمًا على اللبنانيّ أن يلجأ إلى هذا البديل الإجباريّ وليس الاختياريّ لمياه الدولة غير الصالحة للشرب؟

في عمليّة حسابيّة بسيطة، تستهلك العائلة اللبنانيّة ما يقارب الـ 18 ليترًا من المياه المعبأة للشرب والطهي يوميًّا، وبكلفة تبلغ ثلاثة دولارات، أيّ ما مجموعه 84 دولارًا أميركيًّا شهريًّا. هذه الفاتورة يدفعها اللبنانيّ إلى شركات مياه خاصّة، 45 منها فقط مسجّلة رسميًّا، في حين أنّ العشرات من شركات المياه الأخرى، بخاصّة في المناطق النائية، تعمل دون أيّ رقابة أو تسجيل رسميّ وتقوم ببيع مياه للمواطنين من دون معرفة مصدر هذه المياه أو مدى خلوّها من البكتيريا والشوائب.

السؤال البديهيّ الذي يُطرح، أنّه في بلد غنيّ بمصادر المياه الجوفيّة والينابيع، لماذا يُجبر المواطن اللبنانيّ على شراء مياه من الأساس؟ في الوقت الذي تُجمع فيه كلّ المواثيق الدوليّة على أنّ المياه مورد عامّ وحقّ أساس لكلّ مواطن، على الدولة أن تديره، وتحميه من التلوّث، وتنظّم آليّات الاستهلاك والتوزيع، وصيانة شبكة نقل المياه المهترئة، وضبط المخالفات، وتأمين نظام مراقبة لضمان سلامة المياه وديمومتها، لا أن تقوم بتحويل هذه الثروة الوطنيّة إلى مشروع تجاريّ ربحيّ، تنشط فيه شركات تعبئة المياه لبيعها بأسعار متفاوتة، غالبًا ما تجعلها غير متاحة لفئات محدودة الدخل، ما يضعنا أمام واقع مائيّ مزرٍ يعاني من سوء الإدارة والفساد والهدر والتلوّث.

شراء المياه في لبنان سواء للاستخدام المنزلي أو للشرب
محطات بملايين الدولارات خارج الخدمة

اقترض لبنان على مدار ثلاثة عقود مضت 1.5 مليار دولار لمشاريع الصرف الصحيّ، بحسب ما رصدته “غربال” ونُشر تباعًا في أعداد الجريدة الرسميّة. لكنّ المفارقة أنّه من أصل 104 محطّات لتكرير مياه الصرف الصحّيّ في لبنان، هناك فقط 23 منها تعمل، وما تُعالجه هو 14.4 في المئة فقط من إجماليّ المياه المبتذلة التي يجب أن تُعالج، وذلك وفقًا لدراسة أعدّتها الجامعة الأميركيّة في بيروت.

القسم الأكبر من هذه الشبكات إمّا معطّل، وإمّا خارج الخدمة في مختلف المناطق اللبنانيّة، والنتيجة أنّ المياه المبتذلة غير المعالجة، تذهب إلى الأنهر مباشرة، ما يؤدّي إلى تدهور جودة المياه والأراضي الزراعيّة وانتشار الأمراض.

في هذا السياق يؤكّد البروفسور كمال سليم الباحث في البيئة المائيّة أنّ “معظم أنهار لبنان تعاني تلوّثًا جرثوميًّا عاليًا نتيجة التقاعس في معالجة الصرف الصحّيّ، ولكي نحصل على نهر نظيف نحتاج إلى محطّات تكرير فعّالة”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “المشكلة ليست في إنشاء هذه المحطّات وحسب، بل في تشغيلها بشكلٍ مترابطٍ ومستمرّ، فعلى سبيل المثال محطّة زحلة تعمل اليوم بنسبة تشغيل جيدة تصل إلى 80 في المئة، ولكن في المقابل، هناك 84 قرية في البقاع يصبّ الصرف الصحّيّ العائد لها وغير المعالج مباشرة في الليطاني أو في أراضٍ مكشوفة، ما يجعل الجهد المبذول في المعالجة غير كافٍ”.

محطّات ملوِّثة ومعطَّلة

يضيف سليم “في مناطق أخرى كالشوف وعاليه، لا تزال عديد من القرى غير موصولة بمحطّات التكرير وتصرّف مياهها المبتذلة مباشرة في نهر الدامور. أمّا محطّة تكرير الصرف الصحّيّ في بلدة تمنين والمموّلة من الصندوق العربيّ للإنماء الاقتصاديّ والاجتماعيّ بقيمة 29 مليون دولار أميركيّ والمفترض أن تبدأ نشاطها العام 2021، فإنّها لا تزال حتّى اليوم متوقّفة عن العمل بانتظار استكمال الشبكة”.

أمّا في طرابلس حيث المحطّة الأكبر من حيث القدرة الاستيعابيّة والتي بلغت كلفتها 200 مليون دولار أميركيّ، يشير سليم إلى أنّها “تعمل بشكل جزئيّ لعدم وصل خطوط الجرّ للمحطة من القرى المجاورة والمدينة نفسها”. ويردف سليم أنّه “لا يمكن تشغيل محطّة تكرير بشكل جزئيّ إذا لم تُربط القرى بشبكة الصرف الأساسيّة، وهذا النوع من التأخير هو ما يعمّق الأزمة”.

يلفت الدكتور سليم إلى أنّ “الخطر لا يقتصر على الأنهار والمياه السطحيّة وحسب، بل يشمل المياه الجوفيّة نتيجة التسرّب من الجور الصحّيّة غير المطابقة للمواصفات، واستخدام المياه الآسنة لريّ المزروعات، وهو أمر خطير للغاية على التربة والصحّة العامّة والأمن الغذائيّ”.

سليم: الخطر لا يقتصر على الأنهار والمياه السطحيّة وحسب، بل يشمل المياه الجوفيّة نتيجة التسرّب من الجور الصحّيّة غير المطابقة للمواصفات

من أكسير حياة إلى سمٍّ قاتل

تحتوي مياه الصرف الصحّيّ على موادّ كيميائيّة ومعادن ثقيلة وفضلات بشريّة حاملة للبكتيريا والڤيروسات، وفي هذا الإطار يشرح سليم التأثيرات الصحّيّة والبيئيّة لتلوّث المياه بالصرف الصحّيّ والتي تنتج “أمراضًا قلبيّة وتنفّسية كالربو، فضلًا عن زيادة خطر الإصابة بالسرطان بسبب الغازات والروائح الآسنة المنبعثة من مياه الصرف الصحّيّ”. ويمكننا هنا أن نستذكر حادثة وفاة العمّال الخمسة داخل محطّة تكرير المياه المبتذلة في خلدة وقبلها في البقاع نتيجة غازات عالية السمّيّة المنبعثة والتي أدّت إلى اختناقهم ووفاتهم على الفور.

على الصعيد البيئيّ يقول سليم “إنّ التلوّث الحاصل يؤدّي إلى تدهور التنوّع البيولوجيّ، وبحيرة القرعون مثالًا، حيث كانت تضمّ أكثر من 150 نوعًا من الطحالب وستّة أنواع من الأسماك، أمّا الآن فوضعها كارثيّ يتمثّل في اختفاء شبه تامّ للأسماك، حيث انخفض عدد الأنواع إلى نوع واحد هو سمك الكارب وهو غير صالح للاستهلاك طبعًا كونه يتغذّى على ترسّبات المياه الآسنة ولا يحتاج إلى أوكسيجين”.

“في لبنان، ليست لدينا مياه صالحة للشرب من المصدر مباشرة، وهذا يتطلّب إجراء فحوصات دوريّة، لكنّ المشكلة هي أنّ المراكز الموثوقة قليلة جدًّا، في المقابل المراقبة شبه معدومة” هذا ما أكّده سليم خاتمًا حديثه “إذا لم تتّخذ الدولة إجراءات صارمة، وإذا لم يتحمّل المواطن مسؤوليّته أيضًا، فإنّنا نتّجه نحو كارثة بيئيّة، وربّما لن يتبقّى لدينا نقطة ماء واحدة نظيفة في لبنان”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى