حرائق أحراج “سرحمول” تشعل القلوب والفاعل مجهول

تشهد المناطق الحرجيّة في محافظة جبل لبنان كلّ عام حرائق مجهولة المصدر والسبب، إلّا أنّها معلومة الأهداف والنوايا، فثمّة من يوقد النار في الغابات طمعًا في ما تسقطه ألسنة اللهب من جذوع وأغصان، تتحوّل إلى حطب مرصوص في سيارات “بيك أب” يفوق سعر الحمولة الواحدة منها (النقلة) الـ 400 دولار أميركي (أيّ ما يعادل 200 إلى 300 دولار للطنّ الواحد.
بتاريخ الـ 30 من نيسان (أبريل) الماضي، وفي ساعات الفجر الأولى، خرق هدوء الصباح حريق مروّع شبّ في ستّ نقاط متفرّقة في محلّة “المرج” الحرجيّة التابعة لبلدة سرحمول في قضاء عاليه، وسط أجواء رطبة ورياح قويّة. امتدّ الحريق الذي استمرّ أكثر من 15 ساعة متواصلة على مساحة 60 ألف متر مربّع من الأراضي الحرجيّة، بحصيلة تجاوزت 40 ألف شجرة تنوّعت بين أرز وسنديان يراوح عمرها بين 50 و60 عامًا، وذلك بحسب تأكيد رئيس بلديّة سرحمول سامر نورالدين لـ “مناطق نت”.
الحرائق تواصلت طيلة تلك المدّة على رغم جهود فرق الإطفاء لاحتواء هذه الكارثة البيئيّة التي كادت تخرج عن السيطرة، وذلك “بسبب صعوبة وصول سيّارات الإطفاء والإنقاذ إلى المكان، نظرًا لوعورة المنطقة التي شبّ فيها الحريق، وافتقادها إلى طرقات زراعيّة تتيح الوصول إلى النقاط المشتعلة” كما ذكر نورالدين وأضاف: “كانت ثلاث سيّارات إطفاء تقف عاجزة عن إخماد النيران، حيث كان عناصر الدفاع المدنيّ يحاولون الوصول مشيًا على الأقدام، وهذا أمر بالغ الصعوبة في هذه الحال، لأنّ المنطقة جبليةّ، إذ كان كلّما اقترب رجل إطفاء 200 متر كان الحريق يتمّد مسافة 200 متر أخرى”.

ويشير نورالدين إلى أنّ “ما زاد الطين بلّة هو أنّ الاستعانة بطوّافات الجيش كان متعذّرًا، نظرًا إلى وجود خطوط توتّر عالي، لذلك بات مطلبنا الأساسيّ للمرحلة المقبلة إنشاء طرقات زراعيّة بشكل إلزاميّ وليس اختياريّ”.
تكهّنات حول الخلفيّات
كان السبب الأكثر شيوعًا للحرائق هو حرق الأعشاب اليابسة والجافّة من قبل المزارعين، إلّا أنّ ما يطرح علامة استفهام، هو أنّ المساحة التي طالها الحريق، تُعدّ مشاعًا عامًّا تابعًا للبلديّة، ما يُرجّح فرضيّة أن يكون الحريق مفتعلًا من قبل تجّار الفحم والحطب، وهذا ما ألمح إليه نورالدين قائلًا “إنّ الحريق حصل في الساعة السادسة صباحًا في وقت كانت فيه درجات الحرارة منخفضة، ما يدحض ما يُحكى عن أنّ يباس العشب والعوامل الطبيعّية هي السبب في اندلاعه، فضلًا عن أنّ الحريق اشتعل بالتزامن في ستّ نقاط متفرّقة، ممّا يعني أنّه مفتعل، ومن قام بالفعل كان قاصدًا فعلته”.
وتوقّع نورالدين أن “نشهد بالطبع في الفترة المقبلة محاولات لقطع الجذوع المحروقة، لكنّني وفي عمليّة استباقيّة اتّخذت قرارًا بمنع المساس بالأشجار المحروقة أو قطعها”.
منذ نحو شهر قام مجهولون بإشعال النار في الجهة المقابلة للحريق الأخير، وخسرنا نحو 20 ألف متر من الغطاء الأخضر، وتكرّر الأمر نفسه أيضًا في العام الماضي
ليس الحريق هو الأوّل الذي تشهده أحراج بلدة سرحمول، وفي هذا الإطار يشرح نورالدين “هذا الحريق ليس الأوّل، فمنذ نحو شهر قام مجهولون بإشعال النار في الجهة المقابلة للحريق الأخير، وخسرنا نحو 20 ألف متر من الغطاء الأخضر، وتكرّر الأمر نفسه أيضًا في العام الماضي بين شهري تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر)، ما حوّل المنطقة إلى ورشة عمل تعجّ بالحطّابين وتعلو فيها أصوات المناشير لأسابيع متتالية”.
ويردف نورالدين “على الرغم من هذه الجرائم البيئيّة المرتكبة بحقّ ثروتنا الحرجيّة، واختصرت النتيجة بتقرير بسيط قامت به الجهات الأمنيّة بعد التواصل مع رئيس البلديّة السابق، ولم يتمّ فتح محضر تحقيق لمعرفة الفاعلين ومحاسبتهم”.
وينوّه نور الدين بـ “أهمّيّة وجود “راس أحراج في كلّ ضيعة للمراقبة وحماية الطبيعة من التعدّيات، وبخاصّة في البلدات التي تضمّ مساحات خضراء، وهذه مسؤوليّة وزارة الزراعة، ونأمل التعاون مع البلديّات في هذا الخصوص لأنّها حاجة ملحّة وليست من الكماليّات”.
سرحمول ملتقى الغابات
يشتق اسم “سرحمول” من “صر حامول”، والتي تعني “مجمع المؤن” أو “الأهراء”. تبلغ مساحة هذه البلدة الواقعة في قضاء عاليه (محافظة جبل لبنان) نحو 200 هكتار (الهكتار10,000 متر مربّع)، وتشكّل الأحراج قرابة 65 في المئة من مساحتها، وتضمّ أنواعًا عدّة من الأشجار المعمّرة كالسنديان والبلّوط والأرز والبطم والصنوبر والتي يتجاوز عمرها الـ 100 عام. لم تكن أحراج سرحمول يومًا مجرّد أشجار وحسب، بل كانت هوية البلدة ومصدر حياتها.
التهم الحريق المذكور جزءًا كبيرًا من أحراج سرحمول، وحوّل التلّة الخضراء وأشجارها المعمّرة إلى جذوع سوداء بائسة. ولم تقتصر آثار الحريق على الجانب البيئيّ فقط، فالمساحة المحروقة تحتضن معلمًا أثريًّا يعود إلى عهد الأمير منذر التنّوخيّ نحو سنة 760م، ويُعتقد أنّ هذا المعلم بُني على أنقاض قلعة رومانيّة، ما يبرّر الحاجة الماسّة إلى وضع خطط جدّيّة لحماية هذه المنطقة التي يتداخل فيها الإرث البيئيّ والحضاريّ، إذ باتت مراقبة ومحاسبة الفاعلين مسؤوليّة لا تحتمل التأجيل.