غلاء الخضار عابر للصوم وللصائمين.. أيها اللبنانيّون لا تصوموا

“أريد ضُمَّة بقلَة وضُمَّة زعتر إفرنجيّ”، قلتُ للبائع الواقف أمام عربة خُضار في سوق حيّ السُلَم الشعبيّة. ناولنيّ إياهما في كيس صغير أسود، وقال: 200 ألف ليرة. 200 ألف؟ أووف لماذا؟.. تركتها على الطاولة الخشبيّة المُكَسّرة المَركُونة والمسنودة بحجر كبير، وسرتُ إلى الأمام. لعلّي أجد بائعًا أقلّ طمعًا.
كما في كلّ عامٍ، ومع بداية شهر رمضان، ومن دون سابق سببٍ أو ذريعةٍ ترتفع أسعار الخضروات والموادّ الغذائيّة الأخرى التي يعتمد عليها الصائم في إفطاره ليشكّل ذلك عبئًا ماليًّا يُضاف فوق العبء اليوميّ جرّاء الصيام.
المستغرب في ارتفاع الأسعار، هو أنّ قسمًا كبيرًا ممّا يستهلكه الصائم وتحديدًا الخضار مصدره محلّيّ سواء كان من البقاع أو من الجنوب أو من الشمال، وهو ليس مستوردًا من الخارج، فيصبح السؤال مشروعًا عن الأسباب التي تدفع بالتجّار إلى استغلال شهر رمضان ليجنوا بحلوله أرباحًا فوق أرباحهم المعتادة، حتّى لكأنّه موسم الانقضاض على المواطن الصائم بهدف نهبه وزيادة معاناته، عن طريق إلزامه بشراء ضروريّات الشهر، وإن كان معسّرًا.
محاولات باءت بالفشل
مُحاولاتي في اليوم الأوّل للصَوم في شهر رمضان في البحث عن أسعار مخفوضة للخضار جميعها باءَت بالفشل. دِرْتُ في الشارع كلّه من أولّه حتّى آخره لَعلّي أجدُ خُضرة رمضان بسعرٍ أدنى، لكن من دون جدوى. في جولتي الأولى أصبتُ بدهشة عالية من الأسعار، لكنّ الاكتظاظ في الحيّ يوحي بأنّ الناس مُضطّرة إلى الشراء، فلا بديل عن صحن الفتّوش “التقليديّ” المُرتبط بالصيام. الكلّ يدور ويُفتش عن أسعار مُتهاودة بين عربة وأخرى، وبين محلٍّ وآخر، وعن بائعة تفترش الشارع بأكياس خيش. الجميع أصيب “بدوار” اليوم الأوّل.

ثمّة عديد من العوائل تحاول الاكتفاء بقليل من مكوّنات الصحن اليوميّ، الذي لا بُدَّ منه، والذي بسبب الغلاء، قد يدفع ربّة أسرة إلى أن تقتصر في إعداده على الخسّ والبقدونس وقليل من البندورة والخِيار.
وكانت “الدوليّة للمعلومات” قد أوردت أنّ كلفة صحن الفتّوش اليوميّ وصل هذا العام إلى 286 ألف ليرة على المواطن اللبنانيّ كحدّ وسطيّ. ما يعادل 3,2 دولار.
غلاء عابر للأديان
لم يقتصر غلاء وارتفاع الأسعار على المسلمين في شهر صيامهم رمضان، بل انسحب على المسيحيّين في شهر الصوم، والذي تزامن مع حلول رمضان هذا العام، ما زاد الطلب على الخضار والذي يعتمده بشكل أساس الصائمون المسلمون في تحضير طبق الفتّوش، بينما يشكّل لدى المسيحيّين مادّة غذائيّة وحيدة نتيجة انقطاعهم عن اللحوم ومشتقّاتها، الأمر الذي زاد الطلب على الخضار، خصوصًا في المناطق المختلطة حيث الأسواق متشابكة والطلب كبير، وبذلك يصبح الغلاء الفاحش عابرًا للطوائف والمناطق، موحّدًا بينهم في المعاناة والصبر على ما يقاسونه في صيام يُفترَض أن يكون مناسبة للرحمة والعطاء، فإذ به فرصة للاستغلال والجشع.
في دراسة لـ “الدوليّة للمعلومات” فإن كلفة صحن الفتّوش اليوميّ وصل هذا العام إلى 286 ألف ليرة على المواطن اللبنانيّ كحدّ وسطيّ. ما يعادل 3,2 دولار.
من حي السلّم إلى غرب بعلبك
لم يختلف مشهد ارتفاع أسعار الخضار في غرب بعلبك عمّا هو عليه في حيّ السلّم، فكان مشابهًا لناحية “نار الأسعار”. يقول علي يزبك من بلدة حوش الرافقة إنّ ما رآه منذ اليوم الأول لرمضان، من غلاءٍ في أسعار الخضروات تحديدًا يفوق التصوّر، “لم أستطع شراء إلّا نصف كيلوغرام من الخيار لأنّ سعر الكيلوغرام الواحد منه بـ 180 ألف ليرة. وأيضًا نصف كيلوغرام بندورة التي بلغ سعر الكيلو الواحد منها 150 ألف ليرة.”
حاول يزبك وهو ربّ أسرةٍ مكوّنةٍ من سبعة أفرادٍ، في اليوم الأول من الصّيام أن يفطر مع عائلته على ما تيسّر من طعامٍ “لعلّ الأسعار في اليوم التالي تنخفض وتعود إلى ما كانت عليه، “لكنّني فوجئت في اليوم التالي بأسعارٍ جديدةٍ مرتفعة في الخسّ مثلًا، حيث بلغ سعر الخسّة الواحدة 120 ألف ليرة، فاستبدلتها بالملفوف الذي لم يسلم هو الآخر من جشع التجّار ويباع الكيلوغرام الواحد منه بـ 120 ألف ليرة.”
“هذا كفرٌ”
ويضيف “أجبرتني هذه الأسعار على شراء ما نحن بحاجةٍ إليه، فلا بدّ من الإفطار. ولكن لم أشترِ سوى كمّيّات قليلة تكفينا لإفطارٍ واحدٍ، فأنا عامل بالأجرة اليوميّة ووضعي على الحافّة ولا أريد أن أستدين ثمن طعامي”. ويشير يزبك لِـ “مناطق نت” إلى أنّ “كلفة إفطار عائلةٍ من سبعة أفرادٍ “بأنواعٍ قليلةٍ وبسيطةٍ من الطعام ومستلزماته لا تقلّ عن 30 دولارًا، عدا عن طعام السحور الذي بتنا كثيرًا ما نتجاهله. فهل هذا الطمع والجشع من قبل التجّار والبائعين يُرضي الله وعباده خصوصًا ونحن في شهر الرحمة؟ يا ويلهن من الله! هيذا كفر”.
من جهته يرى محمّد حميّة من بلدة طاريّا أنّ “ما يقوم به تجّار الخضروات، سواء أكانوا أصحاب متاجر صغيرةٍ أو أصحاب محالٍ تبيع بالجملة في شهر الله بحقّ المواطن الصائم من خلال رفع أسعار البضائع بشكلٍ جنونيٍّ هو جريمة لا تُغتفر وكفرٌ بالله وبالإنسانيّة.” ويتسائل “هل يعقل أن تكون ربطة الفجل بـ 120 ألف ليرة وفيها فجلتان فقط؟ وهل من العدل أن تباع ربطة البصل الأخضر، فيها حبّتان، بِـ 130 ألف ليرةٍ؟ هذا الأمر فوق العقل والتصوّر. كلّهم كفّار لا يعرفون الله ويجب محاسبتهم.”
كلفة إفطارٍ واحدٍ 40 دولارًا
من جهته يرى محمّد حسن من بلدة بيت شاما، أنّ “ما تشهده الأسواق التجاريّة الخاصّة بالمواد الغذائيّة في المنطقة، منذ بداية شهر رمضان من ارتفاعٍ غير مسبوق في أسعار الخضار والفاكهة، يتحمّل أسبابه المواطنون ولا سّيما الصائمون منهم، فهم من يشجّعون التجار على ذلك لأنّهم يتهافتون على الشراء، حتّى على شراء أنواع يمكن الاستغناء عنها غير آبهين بالأسعار، وكأنّ شهر رمضان هو شهر الاحتفال بموائد الطعام الليليّة الواجب تضمينها كلّ ما لذّ وطاب؟.”
ويقول لـ “مناطق نت” إنّه ربّ عائلةٍ من عشرة أفراد “ثمانية منهم صائمون، وإذا حسبنا أنّ لكلّ صائمٍ وجبة بكلفة خمسة دولاراتٍ كحدّ وسطيّ، فتكون كلفة إفطار واحد للجميع 40 دولارًا. فكيف يمكنني تأمين ذلك براتبٍ شهريّ، كمدرّس متقاعد، لا يتجاوز الـ 300 دولار؟”.
ويتابع حسن “الحقّ مش عالتجّار، الحقّ على الدولة الغائبة بالصوت والصورة، وكنّا قد استبشرنا خيرًا بالحكومة الجديدة وعلّقنا عليها آمالًا كبيرةً في تأمين راحة وخدمة المواطن، لكن يبدو أنّنا ما زلنا مثلما كنّا”. متسائلًا “أين وزارة الاقتصاد ممّا يجري من نهبٍ للمواطن اللبنانيّ من قِبل تجّار لا يخافون القانون ولا يخافون الله؟”.
حديث التجّار
يقول محمّد زين (صاحب محلّ للخضار والفاكهة): “إنّ الغلاء الفاحش في أسعار سلع رمضان سببه التجّار الكبار ونحن ملزمون في أن نشتري بضاعتنا منهم، وهم يبرّرون الغلاء بأسبابٍ واهيةٍ، منها كلفة النقل من أماكن زراعة الخضروات والفاكهة من مدينة طرابلس مثلًا، أو من الجنوب، علمًا أنّ غالبيّة السلع مصدرها البقاع وكلفة نقلها بسيطة.”
حسن: أنا ربّ عائلةٍ من عشرة أفراد، ثمانية منهم صائمون، وإذا حسبنا أنّ لكلّ صائمٍ وجبة بكلفة خمسة دولاراتٍ كحدّ وسطيّ، فتكون كلفة إفطار واحد للجميع 40 دولارًا
ويشير لـِ “مناطق نت” إلى أنّه يشتري بضاعته من سوق الحسبة في الفرزل “حيث الاحتكار والتحكّم بالأسعار”، ويعطي مثالًا على ذلك قائلًا: “كنّا قبل شهر رمضان نشتري قفص البقلة بـ 300 أو 400 ألف ليرةٍ وأحيانًأ بأقلّ من ذلك، لأنّ تجّار الحسبة يريدون التخلّص من هذه الحشائش في اليوم نفسه، أمّا مع حلول رمضان فرفعوا سعر القفص إلى ثلاثة ملايين ليرة. ويلّي مش عاجبو ما يشتري.”
ويضيف مؤكّدًا أنّ “بعض الخضراوات الغالية جدًّا كربطة الفجل التي وصل سعرها إلى 140 ألف ليرةٍ، فأنا لا أشتريها لأنّ بعض الصائمين لا قدرة لديهم على شرائها، وإنّي أجد حرامًا في هذا السعر، لذلك أدع غيري يبيعها.”
إتفاق المسلمين والمسيحيين أضرّ المواطنين!
تطير أسعار الخضار وتُحلّق عاليًّا، والفقير يُعاني كلّ عام من هذه الفوضى الغائبة عن أيّ رقابة، فكيف به الحال مع اجتماع زمن الصوم المسيحيّ مع شهر رمضان لدى المسلمين؟ فالمسلم لا يفطر إلّا على صحن فتّوش، والمسيحي يقاطع اللحوم، ويعتمد الخضار في طعامه طيلة 40 يومًا. وهنا فُتح باب القَدر للتاجر اللبنانيّ “الشاطر”.
اجتمعت الطوائف على الصَوم، والتقت على الصَمت عن الاستغلال السنويّ والدوريّ، فالتجّار الاستغلاليّون يحكمون البلد، والمُهرّبون توقفوا عن التهريب من سوريّا بسبب ضبط الحدود بُعيد تغيير النظام في سوريا الجارَة. وربّما هنا يكمن السرّ في هذا الغلاء الفاحش هذا العام.
لا تصوموا أيّها اللبنانيّون.. فربّما تصحّوا من جلطة جراء الأسعار الخياليّة.