مسرح “فخر الدين” بعقلين ذاكرة فنية في قبضة الوطاويط

في وطننا الذي يتلاشى فيه كلّ شيء يومًا بعد يوم، ببطءٍ وبعبثيّة، نحاول الاستمرار، نتمرّد على تيّار العدم الجارف، فنخلق ونبدع ونبتكر، ونلجأ إلى الفنّ لعلَّه يشفينا. لكن إلى أين نلجأ إذا كان الفنّ أيضًا لم يسلَم من سورياليّة البلاد، فأيّ مسرحٍ يؤوينا؟
في الشوف، وفي منطقة بعقلين تحديدًا، وُلد مسرح “فخر الدين” في أواخر سبعينيّات القرن الماضي. شهدت خشبته أعمالًا لكبار الفنّانين، وأيّامًا ذهبيّة غمرت المدينة التراثيّة ومنطقتها، فقد بقيت أصالتها ثابتة، عصيّة على التشوّه العمراني، لتصبح مقصدًا لأبناء جميع المناطق اللبنانيّة.
اليوم، لم يعُد مسرح “فخر الدين” سوى معلمٍ تاريخيٍّ مهجورٍ ومُهمَل، فعلى من تقع المسؤوليّة؟ وهل هناك بصيص أملٍ يُبشِّر بإعادة العِزّ إلى خشبة هذا الصرح التاريخيّ؟
يطرح إقفال المسرح مشكلة الإنماء غير المتوازن بين المركز (العاصمة) والمناطق، وتمركز كلّ القطاعات في بيروت، بما فيها الثقافة. هذا الخلل يُحيل مختلف المشاريع خارج العاصمة إلى تحدٍّ يتمثّل بالديمومة وأيضًا بالدعم والرعاية، وهما منوطان بالدولة التي تغيب عنهما، فيكون الفشل مصير أيّ مبادرة ثقافيّة خارج أسوار بيروت، وتصبح الأخيرة ممرًا إجباريًّا ومعموديّة ثقافة، تودي بالمبادرات الثقافيّة خارجها إلى حائط مسدود.

ميلاد مسرح “فخر الدين”
يُعدّ مسرح “فخر الدين” جزءًا من “مجمّع الشوف السياحيّ”، الذي بدأ بناؤه العام 1979. كانت مسرحيّة “سهريّة” التي أعاد إخراجها الفنّان عماد أبو عجرم العام 1984 أوّل عملٍ مسرحيٍّ يُقدَّم على خشبة المسرح البعقلينيّ، كافتتاحيّةٍ لهذا الصرح الذي أضحى أحد أهمّ المسارح في لبنان بعد “البيكاديلّي” و”كازينو لبنان” في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي.
على هذا المسرح قدّم أهمّ الفنّانين اللبنانيّين أعمالهم، وكان من بينهم الراحل منصور الرحباني الذي قدّم مسرحيّة “صيف 840″، وحسن الشامي الذي قدّم أعماله المسرحيّة الراقصة، وفرقة “كركلّا”، وريمي بندلي وغيرهم. كذلك احتضن المسرح عروضًا عربيّة وعالميّة مثل مسرحيّة “كاسك يا وطن” لدريد لحّام، والسيرك الروسيّ، والفرقة السيبيريّة والسوفياتيّة، وغيرها كثير.
في حديثٍ مع المخرج والممثّل توفيق زيدان، الذي رافق المسرح منذ بداياته الخجولة ثمّ في حلقته الذهبيّة وصولًا إلى عجزه، يؤكّد زيدان لـ “مناطق نت” أنّ “المشاهدين كانوا يتوافدون إلى المسرح عبر الباصات من بعلبك وصور وغيرها من المناطق الجنوبيّة، لمشاهدة المسرحيّات التي كانت تُقام فيه. كانت مقاعد المسرح موزَّعة لتحتضن 600 مشاهد، إلّا أنّه كان يفيض بعددٍ أكبر من ذلك، فيطلب المشاهدون الباقون الوقوف لساعاتٍ بين المقاعد أو في آخر قاعة المسرح من أجل مشاهدة العروض التي كانت تُقدَّم على خشبته”.
نجح توفيق زيدان في إعادة عرض عديد من مسرحيّات زياد الرحباني مثل “نزل السرور” العام 1985، و”بالنسبة لبكرا شو” العام 1998، و”فيلم أميركي طويل”
نجح توفيق زيدان في إعادة عرض عديد من مسرحيّات زياد الرحباني مثل “نزل السرور” العام 1985، و”بالنسبة لبكرا شو” العام 1998، و”فيلم أميركي طويل” العام 2000، حيث قُدِّمت تلك العروض بحضور زياد وفرقتِه، كذلك فإنّ زياد شخصيًّا قدّم عملًا فنّيًّا على خشبة مسرح “فخر الدين” حمل عنوان “مباشرة”، وكان من أبرز المحطّات التي وُثِّقت في ذاكرة جمهور هذا الصرح المسرحيّ.
خشبة مسرحيّة من الزان الصلب
تفرُّد مسرح “فخر الدين” لم يقتصر على ما قُدِّم على خشبته، بل على الخشبة نفسها. فقد كان تصميمه يُعتبر من أهمّ التصاميم التي تتعلّق بالمسارح اللبنانيّة، لناحية حجم المسرح واتّساعه وسهولة الحركة عليه، وقدرته على استيعاب عروض كبيرة تضمّ عددًا كبيرًا من الممثّلين، وأيضًا لناحية الديكورات، إذ إنّه كان يتميّز بسقفه المرتفع الذي يساعد في رفع وإنزال الديكور المسرحيّ بسهولة.
الأهمّ من ذلك كلّه، فإنّ عراقة المسرح تجسّدت أيضًا في نوعية الخشب المصنوع منه، وهو من خشب الزان المحبَّب استخدامُه في المسارح بسبب صلابته ومتانته. هذه الخشبة الزانيّة الأصيلة احتضنت أهمّ الممثّلين اللبنانيّين، فخطا عليها كبار وصاعدون كانوا في ريعان شبابهم، مندفعين في حبّهم للفنّ. روَت الأجساد كثيرًا من الحكايات على تلك الخشبة التي اعتبرها الشوفيّون متنفّسهم الوحيد من هموم الحياة.

الوطواط… نجم المسرح!
توقّف مسرح “فخر الدين” عن العمل في العام 2005، علمًا أنّه أُقيمت بعض النشاطات الخجولة بعد تلك السنة، لكنّها لم تلقَ زخمًا كبيرًا، إذ كان المسرح قد فقد روحه، بخاصّة بعد توالي إداراتٍ على المجمّع لم تتصرّف بما يليق بهذا الصرح.
في العام 2016، أُضيئت أنوار المسرح من جديد، عندما عرض المخرج توفيق زيدان مسرحيّته “شي من عجلتو” التي أخرجها ومَوّلها بنفسه حبًّا منه بعالم التمثيل وبالفضاء المسرحيّ. في ذلك العام، وعندما دخل زيدان إلى المسرح للمباشرة في التحضير لعرضه، تفاجأ بتحوّل المسرح إلى ملجأٍ للوطاويط، فكانت الخطوة الأولى لتحقيق المسرحيّة هي إخراج الوطاويط من المكان! هكذا، وبدل أن يحصر زيدان مجهوده الفكريّ والجسديّ في عرض العمل المسرحيّ، تحوّلت عمليّة العرض إلى صراعٍ بين الرغبة في الخَلق وغياب أيّ تسهيلات.
في العام 2018، تمّ شراء المجمّع الذي يضمّ مسرح “فخر الدين” من قبل شخصين، وكان من ضمن مشروعهما إعادة تأهيل وإحياء المسرح، لكن بعد احتجاز أموال المودعين والانهيار الاقتصاديّ الذي اجتاح لبنان العام 2019، لم تتحوّل نيّتهما إلى مشروعٍ حيٍّ على أرض الواقع، إذ أصبحت أموال ترميم المسرح محتجزةً لدى مَن لا يُدرك قيمة هذا الصرح لدى الشوفيّين والفنّانين.

أمّا “مجمّع الشوف السياحيّ”، فبعد أن كان الخيار الأمثل للترفيه، ووجهة لأبناء البلدة والمنطقة، وبعد أن كان يضمّ أهمّ المتاجر لأشهر العلامات التجاريّة العالميّة، زحف إليه الغبار يتآكله يومًا تلو يوم. وعلى رغم ذلك، يحاول أبناء المنطقة قدر الإمكان إعادة إحياء المجمّع. ففي السنوات الماضية، اتّخذت مدرّبة الرياضة هنادي راجح محلًّا عتيقًا في المجمّع وحوّلته إلى نادٍ رياضيّ يتّسع للكبار والصغار.
من يتحمّل المسؤوليّة؟
لطالما اعتُبر المسرح مرآةً للشعوب والدول، وانعكاسًا لرُقيّها ومكانتها، فماذا يعكس حال مسرحنا اللبنانيّ؟ اليوم، وفي ظلّ معاناة المسرحيّين في إيجاد مسارحَ تحتضن أعمالهم خارج بيروت وتشّكل فضاءً فنّيًّا يشعرون بالانتماء إليه، تُهمِل الدولة صرحًا مسرحيًّا تاريخيًّا مثل هذا، إذ بات صانع المسرح مضطّرًا إلى أن يتحوّل لـ “ناشطٍ سياسيّ” رغمًا عنه، ليرضي أطرافًا سياسيّة ربّما تموّل أعماله أو تؤمّن له مساحةً للعرض.
السؤال البديهي الذي يُطرح: من المسؤول عن دعم الفنّ باعتباره مُخلِّصًا من الانحطاط الثقافيّ والمعرفيّ الذي يجتاح منطقتنا؟ ولماذا تغيب الدولة عن عمليّة دعم المسارح وإعادة ترميمها؟ وهل من الطبيعي أن يتحوّل مسرح “فخر الدين” إلى ملجأ للوطاويط؟ بينما تفتقر المنطقة إلى المسارح ودور السينما والنشاطات الثقافيّة والفنّيّة بجميع أشكالها؟




