“مار صفرونيوس”.. حين وهبت بشرّي بطريركها للقدس

على الرغم من أنّ المصادر اختلفت حول مكان ولادته، في دمشق أم في بشرّي؟ إلّا أنّها أجمعت على تاريخ ميلاده ووفاته. إنّه بطريرك القدس “مار صفرونيوس”، القدّيس لدى الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة التي تحتفل بذكراه في الـ 11 من آذار (مارس) من كلّ عام.
للبطريرك “صفرونيوس” جداريّة زجاجيّة في كاتدرائيّة مار سابا في ساحة بشرّي قبالة منزل الفيلسوف العالميّ جبران خليل جبران كتب عليها باللغة الكرشونيّة (التي تلفظ باللهجة اللبنانيّة وتكتب بالأحرف السريانيّة) ما حرفيّته “مار صفرونيوس البشراويّ”.
يُعتبر “صفرونيوس” علامة فارقة في تاريخ المسيحيّين، ورجلًا استثنائيًّا في الفقه واللاهوت، وقدوة في الالتزام الكهنوتيّ والتقيّد بالتعاليم والأخلاق والسيرة الحسنة، ولهذا كلّه لقّب بـ “الرجل الحكيم”. وإلى جانب سجلّه الحافل بالإيمان والعقيدة، والمسيرة الإنسانيّة، وضع “صفرونيوس” مع الخليفة الراشديّ عمر بن الخطّاب العام 637 ميلاديّة، العهدة العُمريّة التي شكّلت أوّل وثيقة مكتوبة في التاريخ بين المسلمين والمسيحيّين.

أين وُلد صفرونيوس؟
من هنا فإنّ الإجماع تامّ حول بصمات “صفرونيوس” في تاريخ المسيحيّين والبشريّة، إلّا أنّ الاتّفاق ليس كاملًا حول مكان ولادته. وفي حين تُجمع الكنيسة الأرثوذكسيّة مع السواد الأعظم من المراجع، على أنّ صفرونيوس وُلد في دمشق، يؤكّد باحثون آخرون ورجال دين موارنة أنّه وُلد في بشرّي، في ظّل غياب أيّ دليل بين الطرفين يحسم ما إذا كان والدا هذا البطريرك من مدينة بشرّي شمال لبنان أو أنّهما من دمشق، وقد انتقلا إلى بشرّي حيث وُلد ابنهما فيها، ثمّ عادا به إلى العاصمة السوريّة حيث ترعرع وتابع علومه.
وفي حين يبقى التباين حول مكان ولادته قائمًا، فإنّ هناك إجماعًا حول تاريخ تلك الولادة وهو العام 580 ميلاديّ، على أنّ انتخابه بطريركًا على الكنيسة الأرثوذكسيّة في القدس كان في العام 634 ميلاديّ، في حين كانت وفاته في 11 آذار 638 وفق التقويم نفسه.
مفاتيح القدس
قبل نحو عام من دخول المسلمين إلى القدس، وأثناء حصار المدينة، طلب “صفرونيوس” العام 637 قدوم الخليفة عمر بن الخطّاب شخصيًّا ليسلّمه مفاتيح هذه المدينة. إثر ذلك وضع “صفرونيوس” مع الخليفة عمر بن الخطّاب ما عُرف بالعهدة العمريّة، التي شكّلت أوّل وثيقة مكتوبة بين المسلمين والمسيحيّين. وبموجب هذه الوثيقة دخلت جيوش المسلمين إلى القدس سلمًا، مقابل إعطاء عهد أمان للمسيحيّين والكهنة والرهبان وكنائسهم وأديرتهم وزياراتهم وأموالهم.
حول ذلك يقول المؤرّخ أنطوان جبرايل طوق إنّ هذه العهدة أدّت عمليًّا إلى استتباب السلام في القدس، بعدما ساد الوئام بين القيم الإسلاميّة والمسيحيّة. ويتابع لـ “مناطق نت”: “من أبرز ما صنعته يدا “صفرونيوس”، هو ما يروى عن أنّ بطريرك القدس احتجّ نتيجة الاعتداء على الأملاك المحيطة بإحدى الكنائس في القدس، من قبل المسلمين الذين كانوا يبنون مسجدًا قربها، فوصل الأمر إلى الخليفة عمر بن الخطّاب، الذي رفض تبرير الاعتداء على أراضي الكنيسة، وحين قيل له إنّه إذا لم يقع هذا الاعتداء فسيصاب المسجد بالإعوجاج، أجاب الخليفة فليعوجّ المسجد بدل أن يعوجّ الحقّ، ووضع بذلك حدًّا للاعتداء على أملاك الكنيسة”.
في العام 637 وضع “صفرونيوس” مع الخليفة عمر بن الخطّاب ما عُرف بالعهدة العمريّة، التي شكّلت أوّل وثيقة مكتوبة بين المسلمين والمسيحيّين.
وحول جذور البطريرك “صفرونيوس” يقول طوق “إنّ هناك نتفًا قليلة في الكتب التاريخيّة، خصوصًا المارونيّة، عن البطريرك صفرونيوس، مشيرًا إلى أنّ ما تمّ التوصّل إليه من هذا القبيل، كان عبارة عن لمعات عن هذا القديس”.
“صفرونيوس البشراويّ”
يؤكّد طوق أنّ “عبارة “صفرونيوس البشراويّ” وردت في كلّ المراجع التي انصبّ البحث حولها”، ويشير إلى “أنّ هناك مصادر قليلة تمّ الوقوف عندها، تدفع إلى القول إن والديّ “صفرونيوس” هما من بشرّي، وإنه وُلد في هذه المدينة ثمّ غادر به والداه إلى دمشق”. ويوضح طوق أنّ “تلك المصادر القليلة وردت أساسًا في كتاب تاريخ بشرّي للأب فرنسيس رحمة، وكتاب تاريخ الموارنة للأب بطرس ضوّ، وكتاب تاريخ الأزمنة للبطريرك أسطفان الدويهي”.
من ناحيته، يقول المسؤول عن رعيّة كاتدرائيّة مار سابا في بشرّي الأب شربل مخلوف لـ “مناطق نت”: “إنّ التقليد المتوارث أبًّا عن جدّ في بشرّي والسنكسار فيها، يؤكّدان أنّ “مار صفرونيوس البشراويّ” وُلد في هذه المدينة، ثمّ أخذه والداه إلى دمشق، حيث ترعرع واكتسب درجاته الكهنوتيّة فيها”.
من المفارقات التي يتوقّف عندها الأب مخلوف أنّه “حين يُذكر اسم فينيقيا في ولادة صفرونيوس، فهذا يعني ارتباطه ببشرّي، كونها كانت مقاطعة فينيقيّة، إذ كانت كلّ سلسلة جبال لبنان الغربيّة باتّجاه المتوسّط تسمّى Libanus ou Liban، لكن ما كان يقع خلف تلك السلسلة فكان يسمّى Anti Liban”.
ويشير الأب مخلوف إلى أنّ “أبناء بشرّي والمحيط اعتنقوا المسيحيّة قبل مجيء الموارنة إليها مع البطريرك يوحنّا مارون العام 686 ميلادية وأنّ “صفرونيوس” وُلد وتوفّي قبل هذا التاريخ”. ويوضح أنّه “قبل قدوم البطريرك المارونيّ الجاجي إلى وادي قنّوبين العام 1440 كان يُقال عن أي شخص في بشرّي فلان بشراويّ وبعد هذا التاريخ راحت العائلات البشراويّة تتكوّن”.

وبحسب التقليد الشفهيّ المتوارث في بشرّي منذ الأب أسطفان رحمة (وهو والد كاملة رحمة والدة جبران خليل جبران) حتّى اليوم يتمّ التأكيد أنّ البطريرك “صفرونيوس” وُلد في بشرّي من دون أن يكون محسومًا ما إذا كان والداه من هذه المدينة أو أنّهما من دمشق، وقد أتيا إلى بشرّي حيث وُلد ابنهما فيها ثمّ غادراها معه. إشارة إلى أنّ “صفرونيوس” كلمة يونانيّة، أصلها صفرو بالسريانيّة وتعني انبلاج نور الصباح.
كاتدرائيّة مار سابا
الجدير ذكره أنّ ماريّا ابنة الخوري باسيليوس البشراويّ، هي التي بنت كاتدرائيّة مار سابا في ساحة بشرّي، العام 1112 وقد أعيد ترميمها سنة 2024. وفي هذا الإطار يشير الأب مخلوف إلى أنّ “المهندس أنطوان رحمة، هو الذي أبدع العام 2013 برسمه جداريّة مار صفرونيوس البشراويّ الزجاجيّة في مار سابا”. يضيف “أنّ الأيقونة هي الأساس في الكنيسة، وكانت توضع قديمًا على الأرض، لكن في القرن الخامس أصبحت تُعلّق على الحائط”.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ جدارية “مار صفرونيوس” الموجودة في كاتدرائيّة مار سابا في بشرّي هي زجاجية، وذلك لأن الكاتدرائيّة بنيت وفق النمط الغوطيّ، حيث تكون الشبابيك كبيرة وداخلها زجاج، ما يتيح الرسم عليها. وبحسب الأب مخلوف فإنّ للبطريرك صفرونيوس مزايا كثيرة، أبرزها أنّه كان يحمل “الكتاب المقدّس” أو “كلمة الحياة”، الأمر الذي ينسجم مع فكر التقوى، المزروع في نفس كلّ مؤمن في بشرّي.
ومن هذه المزايا أنّ “صفرونيوس” وانطلاقًا من العهد العمريّ، كان يدرك كيف يتّخذ القرارات، ويعقد الاتّفاقيات التي تحمي كنيسته وشعبه، في ظلّ ظروف صعبة، ومحطّات خطيرة، وهو ما ينبغي أن يتحلّى به المسؤولون الكنسيّون، خصوصًا لجهة مجابهة المخاطر والتحدّيات بحكمة وقوّة وصلابة وحنكة.
