شموع هرمين جعفر.. حين يذوب الضوء في العطر

في بيت جنوبيّ، يقع على تلّة، في منتصف المسافة بين صيدا والنبطية، ثمّة مشغل فنّيّ متواضع، في بيت كبير، هناك يذوب الشمع على مهلٍ، وكأنّه يروي أسرار النهارات، وعبق الزيوت العطريّة يملأ المساءات، في ذاك المكان، تنهمك الفنّانة هرمين جعفر في حوارٍ حميمٍ مع المواد الشمعيّة التي تتعامل معها بكيمياء الفنّ، وابتكار الأشكال.

ما بين الهواية والاحتراف، نسجت هرمين عالمها الخاص من الشموع، عالمًا يزاوج بين الحرفة والعاطفة، وبين الحسّ الجماليّ والمعرفة الدقيقة بتقنيّات التصنيع.

المادة روح للضوء

تبدأ الحكاية من المادة. فهرمين تتعامل مع الشمع كما يتعامل الخزّاف مع الطين أو الرسّام مع الألوان. تدرس خصائصه ودرجات انصهاره وسرعة احتراقه، لتختار منه ما يليق بكلّ نوع من الشموع التي تصنعها.
تستخدم شمع الصويا النباتيّ (هو نوع من الشمع النباتي المستخرج من زيت فول الصويا، ويُعتبر صديقًا للبيئة وبديلًا نظيفًا عن الشمع البارافينيّ) بفضل طبيعته الصافية وصهره المتوازن؛ فهو يمنح سطحًا حريريًّا ويحتفظ بالعطر لأطول مدّة. كذلك تلجأ أحيانًا إلى شمع النحل الطبيعيّ لما فيه من دفءٍ لونيٍّ ونكهةٍ خفيفة من العسل، بينما تفضّل شمع “البرافين” في بعض التصاميم التي تتطلّب صلابةً أكثر ولمعانًا قويًّا.

تُذيب الشمع في أوانٍ مخصّصة من الستانلس، أو البلاستيك، تحت حرارةٍ مضبوطة بدقّة، ثمّ تضيف إليه الزيوت العطريّة النقيّة، فتتكوّن الخلطة كما لو كانت وصفةً روحيّة. كلّ رائحةٍ تختارها تحمل معنى: اللافندر للصفاء، الورد الدمشقيّ للعاطفة، الفانيليا للطمأنينة، وخشب الصندل للعمق والتأمّل.

هرمين جعفر
القوالب هندسة الحنين

القالب عند هرمين ليس مجرّد شكلٍ تقنيّ، بل فكرةٌ جماليّة. تمتلك مجموعةً واسعة من القوالب “السيليكونيّة” التي تستوحيها من الطبيعة والهندسة والفنّ. بعضها دائريٌّ يشبه قرص القمر، وبعضها مخروطيٌّ كجبلٍ صغير، وبعضها تأخذ قاعدته شكل زهرةٍ مجفّفة أو ثمرةٍ من الحمضيّات.

تسكب الشمع السائل بعناية داخل القالب، تراقب تماسكه، ثمّ تزرع فيه فتيل القطن، كمن يزرع شجرة في تربةٍ صغيرة. تضيف بتلات الورد وأوراق النعناع المجفّفة وقطع القرفة وشرائح الليمون، لتتحوّل الشمعة إلى كائنٍ صغيرٍ يحمل بداخله حديقة. هكذا تمزج هرمين بين الضوء والرائحة والطبيعة، في تجربةٍ تُعيد تعريف معنى الحرفة.

المشغل: مختبر الجمال

حين تدخل مشغل هرمين، تشعر أنك تدخل متحفًا صغيرًا للروائح والألوان. على الرفوف تُصفّ العلب الزجاجيّة التي تحوي زيوتًا عطريّة، والقوالب ذات الأشكال المتعدّدة، وأدوات القياس والموازين الصغيرة. في زاويةٍ قريبة، تتكدّس الشموع المنتهية؛ بعضها بلون العسل، وبعضها ورديٌّ أو أزرق باهت، كأنّها تستريح قبل أن تُهدى إلى بيتٍ جديد.

تقول هرمين إن مشغلها بمثابة مساحتها النفسيّة الخاصّة، تلوذ به حين يرهقها ضجيج العالم الافتراضيّ. “وسائل التواصل تُنهكني، تقول بابتسامةٍ حزينة وتردف “أشعر أنّ كلّ ما فيها يُبدَّد بسرعة. أمّا الشمع فيمنحني بطء الحياة الذي أحتاجه”.

من الضوء إلى الرومانسيّة

توسّع هرمين شغفها ليشمل تنسيق طاولات الأعراس والمناسبات؛ فحين تتداخل الشموع مع الورود الطبيعيّة والكريستال، يتحوّل المكان إلى مشهدٍ من حلمٍ ناعم. تصف تلك اللحظات بأنّها “عمل دقيق يشبه التأليف الموسيقيّ، كلّ شمعةٍ نغمة، وكلّ لونٍ إيقاع”.

هرمين جعفر: ضجيج العالم الافتراضيّ يُنهكني، أشعر أنّ كلّ ما فيه يُبدَّد بسرعة. أمّا الشمع فيمنحني بطء الحياة الذي أحتاجه

تختار ألوان الشموع بما يناسب الطابع العام للحفل: الأبيض للنقاء، الذهبيّ للفخامة، الزهريّ للحبّ، والأزرق للسكينة. وتعتمد على الشموع العائمة في أوعيةٍ زجاجيّة مليئةٍ بالماء والزهور، لتخلق وهم الضوء المترجرج فوق سطحٍ من الأحلام. هذه اللمسة الرومانسيّة تحوّل الأعراس إلى احتفالٍ بالحواس، لا مجرّد مناسبة اجتماعيّة.

الحرفة والتراث

للشموع تاريخٌ طويل في التراث اللبنانيّ والعالميّ. كانت تُستخدم في الأديرة والكنائس والبيوت القديمة قبل الكهرباء، وكانت رمزًا للسكينة والدعاء. في الجنوب، كانت النساء يصنعن الشموع من دهن الغنم أو زيت الزيتون، يخلطنها باللون الأبيض المستخرج من الرماد، لتضيء الليالي الماطرة.

إحياء هرمين لهذه الحرفة يُعيدنا إلى تلك الجذور، لكنّه يقدّمها بلغةٍ حديثةٍ تجمع بين العلم والدقّة والجمال. فهي تمثّل جيلًا جديدًا من الحرفيّات اللبنانيّات اللواتي يمزجن الحرفة بالهويّة، ويحوّلن الموروث إلى منتجٍ فنّيٍّ يليق بالعصر.

الجانب النفسيّ والجماليّ

تصنع هرمين الشموع كمن يكتب نصًّا شخصيًّا. في كلّ قطعةٍ أثر من مزاجها في تلك اللحظة التي تسكبها. حين تكون سعيدة، تتجّه إلى الألوان الزاهية والعطور الحمضيّة المنعشة، وحين يغمرها الحزن تختار الألوان الترابيّة والعطور الخشبيّة الهادئة.

تصف هذه العملية بأنّها “تطهير داخليّ”، فالنار التي تشتعل لاحقًا داخل الشمعة ليست مجرّد فتيلٍ محترق، بل رمزيةٌ لتحوّل الطاقة السلبيّة إلى دفءٍ وضياء. ومن هنا يتّخذ عملها بعدًا نفسيًّا عميقًا، فالشمعة أداة توازنٍ داخليّ، ولغةٌ حسّيّة للتأمل.

الشموع عند هرمين تجربة تُعاش. في كلّ شمعةٍ توقّعٌ فنّيّ، في كلّ عطرٍ ملاحظةٌ وجدانيّة. تكتب على بعضها عباراتٍ مقتبسة من الشعر أو من تأمّلاتها الخاصّة، على نحو “ازدهري في النور” و”أضيئي رغم التعب”، و”العطر هو الذاكرة حين تتنفّس”.

من أعمال هرمين
نحو مشروع مستقبلي

هكذا تتحوّل الشمعة إلى نصٍّ بصريٍّ وشعريٍّ في آنٍ واحد. وهي ترى في ذلك امتدادًا لفلسفة الضوء، أن يُنير من دون أن يُظهر نفسه، أن يذوب ليمنح الآخرين دفئًا.

تفكّر هرمين في تطوير عملها إلى علامة تجاريّة لبنانيّة محلّيّة تحمل طابع الجنوب. تريد أن تُطلق سلسلة من الشموع تحمل أسماء مستوحاة من القرى اللبنانيّة، لتربط الضوء بالهويّة والمكان. وتطمح كذلك إلى تنظيم ورش عملٍ لتعليم النساء فنّ صناعة الشموع في البيوت، كطريقةٍ للتعبير ولتحقيق دخلٍ مستقلّ، علمًا أنّها توقّع باسمها على منتجاتها من خلال مطبوعات مخصّصة لهذا لأمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى