متى تصرخ “حريّة تعبير”، ومتى تصرخ “رقابة”؟

ما يُكتب في هذه الزاوية لا يُعبّر عن آراء “مناطق نت”، بل عن آراء الكاتبة وحدها.
إذا كنتَ تعاني من حساسيّةٍ مفرطة، وتتّخذ كلّ الأمور على محملٍ شخصيّ، أو إذا كنتَ تحمل السُلَّم بالعرض وتمشي، فننصحك بتجنّب قراءة هذه المقالة.
“أسئلة من الفقّاعة”: هي سلسلة مقالات ساخرة، تسخر من الواقع وتواكبه، تهزأ من تناقضاتنا وتحبّها، وتحاول أن تشرح لك، بخطوات بسيطة، كيف تنجو في هذه المدينة… أو كيف تغرق بأناقة.

أيّها القادم إلى بيروت حديثًا، أَعلمُ جيّدًا كم أنّك تائهٌ في مدينتنا المتناقضة، وبتَّ تُفضّل التزام الصمت، لأنّك لا تعرف الحروف المناسبة للتفوّه بها، في الزمان والمكان المناسبين.

سأفكّك لك المشهد، لعلَّ عقلك يستوعبه بشكله المبسّط:
في بيروت، الحرّيّة تشبه الكهرباء، تأتي وتذهب بحسب مزاج المولّد. أحيانًا تضيء المشهد، وأحيانًا تنقطع لتذكّرك بأنّك لست متحضّرًا كما تظنّ.
أيّها البيروتيّ الحديث والطموح، إليك هذا الدليل العمليّ لتعرف متى تصرخ “حريّة تعبير”! ومتى تصرخ “رقابة”!، حتّى تبقى مواكبًا للموضة الفكريّة السائدة، وتحافظ على صورتك “المثقّفة” على منصّات التواصل الاجتماعيّ.
إليك خطوات بسيطة من دليل البيروتيّ المتحضّر في استيعاب مفاهيم الحرّيّة على طريقته الخاصّة:

أولًا: متى تصرخ “حرّيّة تعبير”؟
عندما يمنعون عرض فيلمك الذي لم يشاهده أحد بعد.
لا يهمّ إن كان الفيلم مملًّا أو ميزانيته منحة مشبوهة، المهمّ أن تصرخ فورًا: “الرقابة تضرب من جديد!”، “الرقابة تقمع الأصوات الحرّة!”.
هذا يمنحك دعاية مجّانيّة، ويضمن لك ندوة في إحدى القاعات أو الخيم الثوريّة، وهاشتاغًا متضامنًا على منصّة «فيسبوك».
عندما تحذف لك “ميتا” منشورًا تتنمّر فيه على إحدى الشخصيّات العامّة.
هنا، لا تعترف بأنّك خالفت “أخلاق المجتمع”، بل استعن بجملة عميقة ولافتة مثل:
“الخوارزميّات تكمّم أفواهنا!”.
ثمّ التقط سيلفي باللونين الأحمر والأسود، ودوّن في أسفلها: “لن يسكتونا”.
عندما ترفض جهةٌ ما تمويل مشروعك.
لا تعتبر أنّ هناك ملاحظات من لجنة التقييم دفعتها إلى الرفض، بل افترض أنّ هدف اللجنة هو “كتم الأصوات المبدعة”.
استخدم تعبير “المؤامرة على الأصوات الحرّة” مع “إيموجي” وجه غاضب، هذا كافٍ لإقناع المتابعين بأنّك مضطهَد.

ثانيًا: متّى تصرخ “رقابة”؟
حين يُسمح بعرض فيلم زميلك السينمائيّ عوضًا عن فيلمك.
أطلق العنان لعينيك النقديّتين. اتّهِم زميلك بسرقة فكرة فيلمه من عمل أوروبيّ صدر في سبعينيّات القرن الماضي، وحين يسألك أحدهم عن اسم ذلك الفيلم، حدّق في الحائط الأبيض الذي أمامك، ثمّ أجب بثقة:
“لم أعد أذكر اسمه، ولا اسم المخرج، هو فيلم قديم جدًّا”.
أشر أيضًا إلى أنّ فيلم زميلك يروّج لأفكار ربّما تُفسد المجتمع، ثمّ اسأل بصوتٍ عالٍ: “أين هي الرقابة؟”.
حين لا يُحذَف منشورٌ لناشطٍ على منصّات التواصل الاجتماعي يتنمّر عليك فيه.
سارع إلى الردّ بمنشورٍ من حسابك تتّهم فيه الناشط بـ “الذكوريّة”، حتّى ولو لم يكن ما نشره ذكوريًّا أصلًا.
شدّد على اتّهامه بـ”القدح والذمّ والتشهير”، وأكّد أنّك ستضع المنشور بين يديّ القضاء.
هنا، من الضروريّ أن تشير إلى غياب الرقابة عن المنصّات، وأنّ على السلطات إقرار قوانين أكثر صرامة لضبط المحتوى على وسائل التواصل.
لا تقلق، لن يدقّق أحد في منشور الناشط ولا في سبب اتّهامك له بالذكوريّة وأمورٍ أُخرى، طالما أنّ عدد الإعجابات على منشورك يتخطّى تلك التي حازها هو.
حين توافق جهةٌ مانحة على تمويل مشروعٍ غير مشروعك.
كلّ ما عليك فعله هو أن تتّهم الجهة المانحة بأنّ أموالها مشبوهة، وأنّ عملها التمويليّ يخدم أجندة خاصّة.
إن سألك أحدهم عن هدف تلك الأجندة، جاوبه بحنكة:
“الموضوع أكبر منّي ومنك”.
ولا تنسَ أن تتّهم صاحب المشروع المموَّل بانعدام المبادئ، ثمّ شدّد على أنّ من واجب الدولة فرض رقابةٍ أكثر تشدّدًا على تمويل المشاريع الإبداعيّة، وملاحقة مصادر أموال المنظّمات التي تدعمها.

ثالثًا: لا تخلط بين المفهومين!
ربّما تظنّ أنّ الحرّيّة والرقابة متناقضتان، لكن في بيروت يمكن أن تكونا وجهيّ كوفيّةٍ واحدة.
قد تهاجم عرض لوحةٍ دينيّة بداعي “الاحترام”، ثمّ تنشر بعدها صورة ساخرة من إحدى الشخصيّات الدينيّة وتكتب: “بوب آرت”.
وقد تهاجم أغنيةً مبتذلة، ثمّ تشارك في مهرجانها لأنّ الدعوة كانت “في. آي. بي”..

أخيرًا…
في بيروت، الحرّيّة ليست مبدأً، بل إكسسوار.
تضعها على صدرك عندما تريد أن تبدو تقدّميًّا، وتنزعها عندما تودّ أن تبقى على اللائحة الانتقائيّة للمقبولين اجتماعيًّا.
لا تُجهد نفسك بالأسئلة الفلسفيّة عن الرقيب والدولة والمجتمع، السؤال الحقيقي هو:
من يملك الميكروفون اليوم؟
فهو وحده من يقرّر إن كانت صرختك “حرّيّة!” أم “رقابة!”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى