رصد الكارثة البيئيّة بعين نسويّة.. الجنوب باتّجاهات مختلفة

يروي الكاتب فوزي ذبيان في كتابه: مذكرات شرطيّ لبنانيّ، علاقته بالجنوب حينَ كان “إكسسوارًا من إكسسواراته”. ويقول: “كنَّا مجرّد كائنات ترتدي ملابس عسكريّة، وآليّات تجول في القرى وعسكر يأكلون البطّيخ في سهل الوزّانيّ الفسيح”. شرعتُ صراحةً في قراءة هذا الكتاب، حينَ حطّت طائرتي الصيف الماضي في مدينة بيروت، إذ إنّني غبتُ عنها قرابة ثلاث سنوات، ظنًّا منّي أنّي أستطيع الانتقام من المُدن التي تقرّر الموت، لكنّني لم أفكّر يومًا بعواقب أشباحها التي لاحقتني في مدينة الغربان: اسطنبول.

وعلى ذكر الغربان، فإنّه على الرغم من الصوت الذي تصدره، المشابه للبشرِ، إلّا أنّه لم يُسمح لها الدخول في فلك الربّ وبشريّته. ووردَ في سفر اللاويّين، أنَّ الغراب طائرٌ نجسٌ كونه طائر جارح. ويُقال أيضًا إنَّ الغراب في رحلته التي أرسله بها نوح، قصّر، إذ إنّه حلّق جيئةً وذهابًا ولم يرجع بأنباء سارةً عن الأرض في أثناء الطوفان، إلى أن نزلت عليه اللعنة فحّوله الربّ من طائر أبيض إلى طائر بلونه الحاليّ.

لماذا الحديث عن الغربان؟ لأنّه يقال أيضًا: إنَّه منذُ ذلك الوقت، تحوّلَ طابع العلاقة الذي كان يجمع الطبيعة، بالإنسان. وربّما لذلك كان شرط إسرائيل اليوم، السعي نحو: إبادة البيئة في الجنوب اللبنانيّ.

يروي الكاتب فوزي ذبيان في كتابه: مذكرات شرطيّ لبنانيّ، علاقته بالجنوب حينَ كان “إكسسوارًا من إكسسواراته”. ويقول “كنَّا مجرّد كائنات ترتدي ملابس عسكريّة، وآليّات تجول في القرى وعسكر يأكلون البطّيخ في سهل الوزّانيّ الفسيح”.

في مذكّراته، يقول فوزي ذبيان، إنّه كدركيّ أرشدته خدمته العسكريّة في ثكنة مرجعيون، إلى قراءة عشرات الكتب، كونه لا يستطيع أن يقوم بأعماله التي اعتاد القيام بها أيّ شرطيّ في العالم، خصوصّا وأنَّ الكثير من المشاعات في الجنوب ممنوع على ساكني الجنوب، وغيرهم الدخول إليها.

وهذا المنع ذاته ما فتئ أن لاحقني، حينَ توجّهتُ جنوبًا، بعدَما حطّت طائرتي في مطار رفيق الحريري، فعلى بُعد 50 مترًا من منزلي، وبينما كنتُ أتجوّل مع صديقتي في منطقة “شل بعل”، (وهي تسمية كنعانيّة بالمناسبة)، الواقعة بين قريتي الدوير وأنصار، قال لي أحد المتحزّبين: “لا يمكنك الاقتراب أكثر”. وقد لمحتُ معسكرًا، في أراضٍ من المفترض أن تكونَ مشاعًا لنا لنمارس ما اعتدنا أن نفعله نحنُ الجنوبيّين قرب منازلنا.

ماذا يعني تقاطع النسويّة البيئيّة مع القضايا كافّة؟

في تعريفها عن “الشيوع والمشاعات”، تقول الفيلسوفة النّسويّة سيلفيا فيدرتشي، إنّها أداة سياسيّة استخدمها الإنسان منذُ آلاف السنين لتنظيم حياته، إذ إنَّ المشاعات كانت قائمة على العلاقة والتعاون والتبادل بين الإنسان والطبيعة والعكس. وتَعتبر سيلفيا أنَّ المشاعات كمفردة يُقصد بها أبعد من الرفاه المادّيّ، وتمتدّ لكونها كلمة تفاعليّة وتعني أيضًا العلاقات الاجتماعيّة والعدالة، وضمان وصول الجميع إلى موارد الطبيعة، والحفاظ على المعرفة المتوارثة التي يبنيها الإنسان مع الطبيعة.

وعودة للحديث عن الجنوب اللبنانيّ، فإنَّ الحزبين المسيطرين على الجنوب، يعتمدان سياسات اقتصاديّة ليبراليّة تتّسمّ بالنفعيّة، إذ يستحوذ هذان الحزبان على الكثير من المشاعات بحجّة ضمان الأمن في الجنوب اللبنانيّ المهدّد دائمًا من قبل الاحتلال الإسرائيليّ.

الفيلسوفة النسويّة سيلفيا فيدرتشي

ولم يقتصر الموضوع على خصخصة أراضي المشاع، إنمّا سعت هذه الأحزاب، أيضًا، عبر سياسات بلديّاتها إلى خصخصة الفضاء الحَضَرَي، وكانَ لها الدور الكبير في حماية النشاطات الاقتصاديّة غير المشروعة، كعمل المقالع والكسّارات، وظهور معامل تقوم على حرق الإطارات المطّاطيّة لاستخراج موادّ منها لأهداف ربحية.

وبالرجوع إلى تاريخ نشأتي، فإنّني اعتدتُ دائمًا الذهاب مع عائلتي لقطاف الزعتر (الصعتر) البرّيّ في التلال مقابل منطقة “شل بعل” لكن اليوم، تآكل جزء كبير من هذه الجبال والتلال، من قبل الكسّارات التي تجني أرباحًا طائلة من عملها المضرّ بالبيئة. كذلك وفي أثناء زيارتي الأخيرة إلى الجنوب اللبنانيّ، لم أستطع تحمّل رائحة النفايات التي كانت البلدية التابعة لهذين الحزبين – والتي اعتادا على مداورتها بالتزكية في كلّ موسم انتخابي- تقوم بحرقها ليلًا، في الطبيعة قرب الموارد التي من المفترض أن تتوافر للجنوبيّين، من دون أن تطرح أيّ حلّ لمعالجتها، مع العلم، أنَّه في بلدة الكفور ثمّة معملًا لفرز النفايات، لكنّه إلى اليوم معطلّ لأسباب تتعلّق بفساد البلديّات وأحزابها.

تدمير المشاعات بدعوى حمايتها!

تذكر سيلفيا فيدرتشي في حديثها أنّه من الضروريّ وصول الجميع بشكلٍ متساوٍ إلى وسائل الإنتاج التي تُعتبر أساس الحياة في المشاعات. وعلى ضوء هذا القول، فإنَّ تسييج المشاعات في الجنوب اللبنانيّ، دمّر الاقتصاد المبنيّ على نمط الحياة غير التنافسيّ والمتمحور حول التضامن، فالرأسماليّة ودور الأحزاب المهيمنة، غيّرت طابع الأراضي الجنوبيّة، فزادَت من تدميرها ومن تلويثها وتخريبها، وخلقت شرخًا بين الطبيعة والثقافة فيها.

إنَّ اضطهاد الطبيعة والهيمنة عليها من قبل هذين الحزبين، يمتدّ أيضًا على الفئات المُهمّشة التي تعيش في الجنوب اللبنانيّ. وثمّة أوجه شبه بين تعامل هذين الحزبين مع الطبيعة، وتعاملهما مع الفئات المهمّشة. ويأتي دور النسويّة البيئيّة هنا في نقطة التقاطع بين القضاء على الأرض وتسييجها وخصخصتها والاستيلاء عليها، وبين الاضطهاد الاجتماعيّ.

إنَّ اضطهاد الطبيعة والهيمنة عليها من قبل هذين الحزبين، يمتدّ أيضًا على الفئات المُهمّشة التي تعيش في الجنوب اللبنانيّ. وثمّة أوجه شبه بين تعامل هذين الحزبين مع الطبيعة، وتعاملهما مع الفئات المهمّشة. ويأتي دور النسويّة البيئيّة هنا في نقطة التقاطع بين القضاء على الأرض وتسييجها وخصخصتها.

وتقول كلّ من النسويّتين البيئيّتين ماريا ميس وفندانا شيفا إنَّ النسويّة البيئيّة هي إطار سياسيّ للتفكير، إذ إنّها برؤيتها النقديّة للمحيط تستطيع الكشف عن الأصول المشتركة لتدمير البيئة والاضطهاد الاجتماعيّ. وتشرح النسوية البيئية فال بلوموود في كتابها: Feminism and the Mastery of Nature، أنَّ الإنسان تسبّبَ بخلق ثنائيّات مثل: الرجل مقابل المرأة، السيّد مقابل العبد..، بحيث يكون أحد الأطراف مسيطرًا دائمًا ومتفوّقًا على الآخر. وتقول إنَّه عندما تسيطر هويّة المتفوّق، يشرع الناس بالتأقلم معها وكأنّها جزء من الطبيعة. وبذلك تصبح التراتبيّة والإقصاء والسيطرة كما لو أنّها شطرٌ من الثقافة الإنسانيّة المرتبطة بالطبيعة.

الاحتلال الإسرائيليّ يعتمد “الإبادة البيئيّة”

يعتمد الاحتلال الإسرائيليّ في حربه الدائرة اليوم بينه، وبين حزب الله في الجنوب اللبنانيّ، على سياسة الإبادة البيئيّة، في إطار سعيه إلى تحقيق الإبادة المكانيّة. إذ إنّه يعمل على خنق المواطنين الجنوبيّين باستخدامه للأسلحة الممنوعة دوليًّا، كالفوسفور الأبيض على طول 23 بلدة جنوبيّة. ما يسبّب ضررًا بيئيًّا كبيرًا على الأمدّ الطويل.

ويعني مصطلح الـ ecocide أو الإبادة البيئيّة الذي مورس للمرّة الأولى في حرب الولايات المتّحدة الأمريكيّة على الأراضي الزراعيّة الفيتناميّة: تدمير ممنهج للبيئة، وللغطاء البيولوجيّ وتلويث الموارد التي يحتاجها المواطنون، ما يعني ضررًا مادّيًّا كبيرًا، وهذا ما ثبت في الجنوب اللبناني.

وتعمد إسرائيل في حربها أيضًا، على اقتلاع الثقافة الرمزيّة التي بناها الجنوبيّون مع طبيعتهم، إذ إنَّ الحرق المتعمّد للأراضي الزراعيّة من قبل الاحتلال الإسرائيليّ أدّى إلى تدمير 40 ألف شجرة زيتون تقريبًا، وهذا ما قد يؤدّي إلى مشكلة كبيرة على صعيد الأمن الغذائيّ، خصوصًا وأنَّ لبنان يعاني من أزمة اقتصاديّة خانقة أيضًا.

وتعمد إسرائيل في حربها أيضًا، على اقتلاع الثقافة الرمزيّة التي بناها الجنوبيّون مع طبيعتهم، إذ إنَّ الحرق المتعمّد للأراضي الزراعيّة من قبل الاحتلال الإسرائيليّ أدّى إلى تدمير 40 ألف شجرة زيتون تقريبًا.

واللافت كذلك، أنَّ إسرائيل تستخدم الغسيل الأخضر، إذ إنَّ مشاركتها في مؤتمر المناخ الذي عُقد قبل بضع أسابيع في دبيّ، يثبت سيطرة الرؤية الأبويّة في حلّ مشكلة الأزمة البيئيّة العالميّة، خصوصًا وأنَّ إسرائيل لا تزال مستمرّة في هذه الإبادة. ويتقاطع الاستعمار المباشر، مع الرأسماليّة في تفكيك المشاعات وانتزاعها من أفرادها وفي التدمير والسعي نحو محو المعرفة التي يكتسبها المواطنون من طبيعتهم، إمّا عبر سرقة هذه المعرفة، أو عن طريق تدمير الطبيعة بشكلٍ كامل. ولإسرائيل سوابق في تدمير الأراضي وفي انتزاعها من الفلسطينيّين وبناء المستوطنات غير القانونيّة عليها.

ما أهمّيّة وجود النسويّة التقاطعيّة البيئيّة في الجنوب اليوم؟

أهمّيّتها تكمن في قراءة ما يحصل في الجنوب بعيدًا عن الثنائيّات، وعن الرؤية الأبويّة التي أثبتت فشلها في الحفاظ على الطبيعة، والسعي نحو استعادة المشاعات والقضاء على أشكال الاضطهاد كافة التي تطال الجنوبيّين لا سيّما الفئات المهمّشة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى