سوق المفروشات في بلدة المرج البقاعية “تنازع”.. صالات خاوية وخسائر بملايين الدولارات

يقول الشاعر:‏
لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ ‏
فليُسعد النطق إن لم تُسعد الحالُ
عندما وضعت الحرب الأهلية أوزارها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم يكن أحد يتوقّع أن ‏يتحوّل مدخل بلدة “المرج” البقاعية إلى أكبر تجمّع لبيع “المفروشات” في لبنان، هذا المدخل الذي ‏يمتدّ على مسافة كيلومترين شهد خلال الفترة السالفة نهضة عمرانية هائلة، جعلته قبلة للراغبين في ‏تأثيث منازلهم أو تجديدها.

اليوم ونحن في “أتون” كارثة اقتصادية كبيرة ضربت كل القطاعات على حدّ سواء، لم ترحم الأزمة ‏الحادة قطاع المفروشات، فمنذ أن أطلّت الأزمة برأسها بدأت هذه “السوق” تهتزّ أمام عصفها، جرّاء ‏تهاوي الليرة بشكل غير مسبوق وتراجع القدرة الشرائية للمستهلكين، والخشية على المدخرات و‏‏”جنى العمر”، أحالت هذه السوق إلى مدينة عامرة بـ “الصالات” الفخمة، وخاوية تمامًا من الزبائن.

من إحدى صالات المفروشات في بلدة المرج البقاعية
صالات فارغة

تمتد “سوق المفروشات” في بلدة “المرج” على مسافة كيلومترين إثنين وتنتشر على جانبيها ‏صالات العرض والتي يبلغ عددها “34 صالة”، وفي غالبيتها صالات جديدة تمتاز بالفخامة ‏العمرانية والمساحات الكبيرة، أضفت على هذه السوق لمسة جمالية تنتشر على جانبي “الطريق ‏العريض”، بحيث أصبح مدخل هذه البلدة التي تعتبر “بوابة البقاع الغربي” يقارن بمداخل المدن إن ‏لم نقل أجمل وأوسع.

“مئات ملايين الدولارات” مستثمرة في هذا القطاع، ما بين بناء الصالات وتأمين التجهيزات ‏ومصانع الإنتاج، إذ تتراوح قيمة كل مستثمر ما بين (250 ألف دولار) و (500 ألف دولار) للصالة ‏الواحدة، من دون حساب قيمة البناء وتكاليفه. هذا القطاع الذي يوفّر عشرات فرص العمل تعيل ‏عشرات العائلات، عدا عن الترابط الذي تقيمه مع “مستوردي الأخشاب والأقمشة ومعامل الإسفنج” ‏والتي تضررت أيضًا بفعل الأزمة التي أصابت قطاع المفروشات، إذ كان يسهم في تنشيط أعمال كثير ‏من المهن المرتبطة به كالدهان والنجارة والتنجيد وحفر الخشب ورسمه وغيرها.‏

بالاضافة إلى هذه الصالات تنتشر قطاعات أخرى مرتبطة بقطاع المفروشات كصالات البرادي(3) ‏والأثاث المكتبي(2) والسجاد(3) والكهربائيات والإنارة(4)‏‎ ‎مؤسسات لبيع الأخشاب (2)، لكن ‏الطابع الرسمي لهذه السوق دُمِغَ بـ”المفروشات” نظرًا لرغبة عدد كبير من رجال الأعمال في ‏المنطقة بالإستثمار في هذا القطاع، ولعدد الصالات الكبير نسبيًا من أن يجمعه مكان واحد، فغدا خلال ‏عقدين من الزمن من أكبر التجمّعات التجارية ذات اللون الواحد في المنطقة.‏‏

جانب من سوق المفروشات في بلدة المرج
ولّى زمن الديكور

أرخت الأزمة الاقتصادية بظلالها على حياة اللبنانيين، وبات عليهم التأقلم مع أثاث منازلهم لفترة ‏طويلة والحفاظ عليه قدر المستطاع، لأن إمكانية تغيير “العفش” بات ضربًا من الجنون في هذا ‏الزمن، أقله في المستقبل المنظور، نظرًا لفقدان المواطن أي قدرة على الشراء، بحيث أن “الديكور” ‏ولّى إلى غير رجعة، وبات الهمّ الأول للمواطن البحث في كيفية تأمين “لقمة عيشه” لا أكثر.

صالات عرض المفروشات تستسلم تباعًا، فالصناعة المحلية ما عادت قادرة على الاستمرار وهي ‏التي كانت تحتل المرتبة الأولى قياسًا على جودتها ومضاهاتها للصناعة الأجنبية، ولا الاستيراد ‏الخارجي بالمستطاع في ظل التهاوي المخيف بسعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي، ‏وبالتالي وقع المستثمرون في هذا القطاع بين “فكّي كماشة” قد يضع مستقبل تجارتهم في مهب ‏الريح و..الإقفال.

شهادات موجعة ‏

“نحن هنا منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي” بهذه العبارة بدأ السيد “محمد قاسم جراح” مدير ‏‏”كاليري الجراح” الذي يُعتبر الأول الذي استثمر في هذا القطاع بحيث أصبح الاسم ماركة مسجلة ‏في المنطقة لعراقته، يقول الجراح: “عرفت صناعة المفروشات في لبنان عمومًا وفي البقاع ‏خصوصًا عزّا كبيرًا، ورغم كل ما مرّ على لبنان والمنطقة من أحداث وحروب، بقيت هذه التجارة ‏تحتل الريادة وشكّلت في مرحلة بداية التسعينيات إحدى دعائم الصناعة الوطنية وأكثرها توفيرًا ‏لفرص العمل، وبدأت هذه التجارة في البقاع تنافس كبريات الأسواق في لبنان، وتقدّمت الصناعة ‏المحلية على الصناعات المستوردة بأشواط وعرفت نهضة كبيرة “.

محمد قاسم الجراح

يضيف الجراح: “طوال سني الحرب الأهلية وما شهدناه من تردي الأوضاع لم نشهد ما نشهده الآن ‏من تهاوي هذا القطاع، ففقدان المقدرة الشرائية لدى المواطنين وضع قطاعنا خارج سلم أولويات ‏الناس، الباحثة عن تأمين الغذاء والدواء والمحروقات للتدفئة، ووضعنا أمام خيارات صعبة جدًا، ‏فالاستمرارية تتطلب إمكانيات كبيرة في ظل انهيار السوق بشكل كامل رغم محاولات الصمود التي ‏نبذلها، استثمارات بملايين الدولارت ما بين صالات العرض الكبيرة والمميزة وبين أسعار ‏المفروشات “الواقفة في خلقتنا”، والسوق أصابه الشلل وهذا أمرٌ طبيعي قياسًا على الظروف ‏الاقتصادية التي نمر بها”.

“أربع صالات ضخمة لدينا في سوق المفروشات في بلدة المرج كلها مصابة بالشلل”، هكذا توجّه ‏لنا السيد “خالد أبوجخ” صاحب ومدير “سنتر أبو جخ للمفروشات”، إذ تشعر بـ “الغصّة” تتملكه ‏وتعتري صوته وهو يتحدّث لنا: “عدنا من بلاد الاغتراب منتصف التسعينيات لنستثمر “جنى ‏أعمارنا” في هذه التجارة، وتوسّعت تدريجيًا حتى باتت صالاتنا مقصدًا للبنانيين من مختلف المناطق، ‏وباتت مصانعنا ترفد هذا القطاع وتؤمن متطلبات الناس، ومن هذه المؤسسة خرجت ثلاث صالات ‏للعرض لأبنائنا، لأنها حرفتنا وأصبحنا جميعنا على دراية تامة بتفاصيلها”.

تخفيض للعمال والمصانع توقفت
خالد أبو جخ

يضيف أبو جخ: “كل أرصدتنا استثمرناها في هذا الميدان، واليوم نراقبها بعيون دامعة، مئات ‏الملايين من الدولارات معطّلة أمامنا، صالات مليئة بكل أنواع وأشكال المفروشات، العربي والأجنبي، ‏الستيل والمودرن، مصانعنا متوقفة عن الانتاج، أضطررنا لتخفيض عدد العمال، انهيار الليرة خلق ‏لنا الكثير من المشاكل التي حاولنا معالجتها والتعامل معها بالتي هي أحسن، لكن طوفان الانهيار ‏يجرف في طريقه كل شيء، نحاول الصمود لكن إلى متى؟، فلا آفاق للحلول في لبنان ولا ضوء في ‏نهاية النفق”‏.

الحاج “يوسف صالح” صاحب “معرض صالح للمفروشات” يقول: “التراجع في المبيعات تخطّى الـ ‏‏70 %، والدفع بأغلبه يكون نقدًا إلا في حالات محدودة جدًا نقبل فيها الدفع بالشيكات، أما الطلبيات ‏فتميل نحو البضاعة البسيطة وغير المكلفة. لم يعد أحد يشتري بضاعة فاخرة، وقد ساهمت قرارات ‏الإغلاق غير المدروسة منذ مطلع العام 2020 بسبب أزمة “كورونا” في ضرب هذا القطاع في ‏الصميم وتفاقم أزمته، إذ أن عدد الزبائن الذين يقصدوننا في الأيام العادية محدود فكيف في أزمة ‏اقتصاديّة وصحية كالتي نمر بها ونعيش مرارتها”.‏

ويشرح صالح مسار الأزمة فيقول: “بداية تهاوي سعر الليرة أمام الدولار الأميركي منذ أواخر ‏‏2019 أثّر على أعمالنا بشكل كبير وخلق لنا جملة من المشاكل مع الزبائن، لاسيما أولئك الذين كانوا ‏قد حجزوا مسبقًا مفروشات ودفعوا “رعبونًا” لها، الزبون لا ذنب له فكلفة التصنيع تضاعفت مرات ‏ومرات، وهو عقد اتفاقية الشراء على سعر معين، بينما ميعاد التسليم كانت على أسعار ملتهبة أكثر، ‏وبعض الصالات رفضت أن تبيع على سعر الصرف الثابت وحاولت مفاوضة الزبائن على سعر آخر، ‏أو عرضت أن تعيد إليهم ما دفعوه، ما خلق مشاكل إضافية، لناحية تحديد القيمة المالية التي يفترض ‏أن يعاد بها الـ “رعبون”، وغيرها الكثير من السيناريوهات تبعًا لكل حالة، وفاقم الأزمة انعدام خيار ‏التقسيط والتشديد على الدفع نقدًا، ما شطب فورًا الأغلبية العظمى من اللبنانيين الذين لم تعد رواتبهم ‏تكفيهم لسد احتياجاتهم الأساسية” . ‏

يوسف صالح
أرقام فلكية

“فرش منزل” بكامله وفق سعر صرف الدولار اليوم يقارب “نصف مليار” ليرة لبنانية تقريبًا، ‏أرقام تترك “الزبون” ينأى بنفسه عن الخوض في تفاصيلها، وهي أرقام تفوق سعر منزل وفق ‏سعر صرف الدولار الرسمي، وتبيّن ذلك حجم الأزمة التي تعاني منها معارض المفروشات التي ‏تجهد منذ عام 2019 لتصريف بضاعتها.‏

لم ترحم الأزمة كل القطاعات في لبنان، ونظرًا لانعدامية اجتراح الحلول التي تنقل البلاد من ضفة ‏إلى أخرى، تتهاوي أمام قساوة الضربات التي تتلقاها، ومنها قطاع المفروشات الذي يقف برمته ‏على حافة الهاوية من دون أي إمكانية للصمود، وغياب كلي للإلتفاتة الرسمية لاسيما من وزارة ‏الاقتصاد التي تولي عنايتها كاملة لـ “لقمة العيش” وكيفية تأمينها بأدني المقومات.‏

“سوق المفروشات” في بلدة “المرج” البقاعية، والذي كان يعتبر “مفخرة” لهذه البلدة، تراه ‏اليوم ينازع وتدهسه الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان، وهو أسوة بغيره من القطاعات تتسلل ‏فكرة “الإقفال” إليه ومن جديد إلى “الهجرة” در.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى