خفّة القتل والسرقة تجتاح لبنان وترفع معدلات الجريمة

قبل أيّام قليلة، انتشر خبر عن إشكال وقع في محلّة الزاهريّة (طرابلس)، راح ضحيّته طفل يبلغ 12 عامًا، والسبب “نصف فروج”. سبق ذلك، أخبار كثيرة مماثلة، منها: عن إشكال مسلّح يودي بحياة المحرمجي وابن شقيقته في منطقة المينا (طرابلس)؛ محاولة سرقة درّاجة ناريّة تُلقي بشابّ عشرينيّ على سرير العناية الفائقة في أحد المستشفيات أكثر من أسبوع؛. سلب سيّدة في وضح النهار في الحوش (جنوب لبنان). وبالطبع لم يكن آخرها تعرّض أحد المحامين لاعتداء داخل منزله في الكورة، حيث تمّ تكبيله وضربه. وفي غالبيّة الحوادث السابقة فرّ الجاني وفتحت القوى الأمنيّة تحقيقاتها.
إستسهال القتل!
هذه ليست سوى نماذج قليلة، لحوادث مأسويّة تحصل يوميًّا في مناطق مختلفة من لبنان، قصص قتل بدم بارد، نالت الشمال حصّة كبيرة منها، إذ كانت وتيرتها مرتفعة في الآونة الأخيرة، أكثر من بيروت والجنوب، الأمر الذي أثار مخاوف لبنانيّين كثر، باتوا غير قادرين على التنقّل بحرّيّة، في ظلّ غياب الأمان واستسهال القتل وخفّته على أتفه الأسباب وأقلّها أهمّيّة، ما ضاعف هموم اللبنانيّين ممّن يعيشون منذ العام 2019 أزمات اقتصاديّة واجتماعيّة أرهقتهم، وفوقها أتت الحرب الإسرائيليّة لتقضي على آمالهم الباقية في أن يخرج لبنان من محنه ويصبح أفضل في وقت قريب، وبأنّهم سيتعافون.
تروي الشابّة صبا المصري، وهي من سكّان منطقة المينا (طرابلس) كيف باتت أخبار السرقات وجرائم القتل يوميّة في طرابلس ومناطق أخرى في شمال لبنان، وتقول لـ “مناطق نت”: “زادت وتيرة هذا النوع من الجرائم، في الشهرين الأخيرين، بشكل فاقع جدًّا. نعرف بعض الضحايا شخصيًّا، لذا كان وقع الأحداث ثقيلًا علينا”. من المعلوم أنّ الجرائم المذكورة كانت تحدث ولكن بمعدلات متباينة، وهذا أمر يعيشه الناس في مختلف المناطق اللبنانيّة، أقلّ أو أكثر بقليل.

إنّ أكثر ما تستغربه صبا، أن أسباب القتل باتت ” تافهة جدًّا” على حدّ تعبيرها، وتضيف: “هناك استخفاف بأرواح الناس، ولا رادع يمنع المجرمين، فمظاهر الدولة غائبة عن أبسط تفصيل في المدينة، كتنظّيم مرور السير مثلًا، والأخطر من ذلك، فكرة الثأر التي يروّج لها الجاني، إذ يرى أنّ له الحق في القتل”.
“نخاف التنقّل وحدنا..”
وعن أثر هذه الجرائم على الناس، تقول صبا: “بتنا نخاف من التنقل وحدنا، إذ نشعر بعدم الأمان، وكثير ما صار يعنينا التفكير بالمكان الذي سنقصده وبأي وقت، فمثلًا نتجنّب الخروج ليلًا، وخلال خروجنا من المنزل، إلى مكان العمل أو للتسوّق والزيارات، نتمسّك بمحافظنا وهواتفنا ونبقى بوضعية التلفت والتنبّه إلى كلّ ما يدور حولنا”.
تطغى ملامح القلق على الوجوه إذ “كلّنا معرّضون للموت برصاصة طائشة أو على خلفيّة إشكال بسيط. نشعر بانعدام الأمان ونخاف على من نحبّ من أن يصيبهم أي مكروه” تضيف صبا.
لا تزال بعض الأحداث تنطبع في مخيّلة صبا: “أذكر جيّدًا الحادثة التي تعرّضت لها قابلة قانونيّة، قبل نحو شهرين، إذ تمّ نشلها أمام مستشفى النيني في طرابلس، بوضح النهار، عند الـ 12 ظهرًا وفي منطقة مكتظة سكّانيًا. نحن غير آمنين ليلًا ونهارًا”.
صبا: أذكر جيّدًا الحادثة التي تعرّضت لها قابلة قانونيّة، قبل نحو شهرين، إذ تمّ نشلها أمام مستشفى النيني في طرابلس، بوضح النهار، عند الـ 12 ظهرًا وفي منطقة مكتظة سكّانيًا. نحن غير آمنين ليلًا ونهارًا.
بعض الناس طبيعتهم مجرمة
وفي الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت كما في بيروت الإداريّة، يعيش الناس مخاوف مشابهة. يسرد علي عواضة، وهو من سكّان برج البراجنة، كيف شهد بنفسه على حادث إطلاق نار في شارع الجاموس، “كان مشهدًا مخيفًا، إذ صوّب شاب صغير، مسدسه الذي كان يضعه على خاصرته باتّجاه أحد الرجال المسنّين، وأطلق عليه النار، وبكلّ برود فرّ بعدها من المكان، وكأنّ شيئًا لم يكن”.
ويضيف لـ “مناطق نت”: “الجوّ العام مشحون هنا، أحيانًا ينشب خلاف على أفضليّة مرور، وتتطوّر الأمور لتصل إلى جريمة قتل، أعتقد أنّ الناس بطبيعتها باتت مجرمة، وإلّا كيف تحدث كلّ هذه الحوادث يوميًّا؟”. علمًا أنّ الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت كانت هدفًا للضربات الإسرائيليّة خلال الحرب الأخيرة، وقد عاد إليها سكّانها بعد إعلان قرار وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
ويتحدّث عواضة عن أسباب دفعت بعض الناس باتجاه هذه العدوانيّة، وفيقول: “ممّا لمسته بين الناس هنا، ربّما من الضغط النفسيّ بسبب الحرب، وقبلها الأزمات الاقتصاديّة والمعيشيّة، ومعها إهمال الأجهزة الأمنيّة”.
عامل آخر، يتحجج به بعض الناس لإظهار عدوانيّتهم تجاه الآخرين، وهو الصوم، الذي يفترض أن يكون رادعًا يبعد الصائمين عن أيّ أذى وليس فقط الجريمة.
في الجنوب أيضًا
لا تزال أعداد الحوادث التي نسمع عنها منخفضة، ربّما لأنّ الناس غارقة في هموم إعادة التعمير، يقول بلال وهو أحد سكّان صور (جنوب لبنان): “للمرّة الأولى، تحدث في صور عمليّات نشل، في المدينة والحوش، من قبل شبّان على دراجات ناريّة. لم نعتاد على مثل هذه الأخبار من قبل”.
وعن مخاوفه، يقول: “حادثتان فقط، ما يعني أنّ الأمور لا تزال مقبولة، لكنّ الخوف من انتشار هذه الظاهرة مستقبلًا”.
أرقام وحوادث
في العام 2025، بلغ عدد القتلى في شهريّ كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) الماضيين، 30 قتيلًا، مقارنة بـ27 قتيلًا في الفترة نفسها من العام الماضي، و613 حادثة سرقة وهي نسبة مماثلة للعام السابق، والتي بلغت 614 حادثة، أمّا حوادث سرقة السيارات فقد بلغت 64 مقارنة بـ147 سيارة في العام الماضي، بينما ارتفعت أعداد قتلى حوادث السير من 59 إلى 81 قتيلًا في الشهرين الأوّلين هذا العام، وفق الأرقام التي زوّدتنا بها “الدوليّة للمعلومات”.
وكانت المؤشّرات الأمنيّة في العام 2024 قد أظهرت تحسّنًا مقارنة بالعام 2023، إذ شهدت تراجعًا لافتًا في عدد الجرائم، إذ قد بلغ عدد القتلى 153 شخصًا مقارنة بـ 158 شخصًا في العام الذي سبقه، و2784 جريمة سرقة مقابل 3152 جريمة. بينما ارتفعت جرائم الخطف مقابل فدية ماليّة بنسبة كبيرة بلغت 42.8 في المئة، وأتت كالآتي: 40 عملية خطف مقابل 28 عملية في 2023، أيّ بزيادة 12 عملية، وذلك وفق “الدوليّة للمعلومات” استنادًا إلى أرقام المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخليّ- مجلّة الأمن العام.
تراكم الأزمات وأثرها
يؤكّد الأستاذ المحاضر والباحث في معهد العلوم الاجتماعيّة عبّاس رضا أنّ “لبنان ليس حالة فريدة من نوعها لجهة فعل الجريمة، بل على العكس، فإنّ معدّلات الجرائم في لبنان، بأنواعها المختلفة، منخفضة مقارنة بالدول الغربيّة، لا سيّما الولايات المتّحدة الأميركيّة، وبعض الدول الأوروبيّة، على سبيل المثال”.
لكن هذه المقارنة، لا تعني عدم وجود عنف وجرائم ارتفعت وتيرتها خلال الأشهر القليلة الماضية، بدافع الثأر أو السرقة، وحصلت بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب الإسرائيليّة الأخيّرة، وبعد أعوام من الضغوط الاقتصاديّة والمعيشيّة والنفسيّة.
في العام 2025، بلغ عدد القتلى في شهريّ كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) الماضيين، 30 قتيلًا، مقارنة بـ27 قتيلًا في الفترة نفسها من العام الماضي، و613 حادثة سرقة
يقول رضا لـ “مناطق نت” إنّ “لبنان شهد على مثل هذه الجرائم في حقبات مختلفة وبالتالي فإنّ تناميها أخيرًا لا يرتبط فقط بالمستجدّات الاقتصاديّة والمعيشيّة”. ويضيف: “ثمّة أسباب كثيرة دفعت في هذا الاتّجاه، منها أزمة كورونا والوضع المعيشيّ والحرب، وكذلك التماهي مع مشهديّة العنف والدم والسلوك الإجراميّ القائم في المنطقة”. والمقصود هنا ما حصل في سوريا طوال الأعوام الماضية وتبعات النزوح السوريّ.
ويتابع رضا قائلًا: “لا يجعل الفقر من الفقير سارقًا، ولا مجرمًا. ومن يمارس فعل الجريمة، يكون كذلك في الحرب والسلم على حدّ سواء”.
مزيد من الجريمة والعنف
يضاف إلى جميع ما ذكرنا، “غياب الرادع بسبب قصور وتقصير الأجهزة الأمنيّة في الملاحقة وتسليط الإعلام الضوء على جرائم دون أخرى، وفي مناطق محدّدة” بحسب رضا. وعلى رغم تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية، “لا تزال مظاهر الدولة غائبة في كثير من المناطق، وفي هذا السياق، لا بدّ من ضبط الأمن وفرض عقوبة صارمة بحقّ الجناة”.
ووفقًا لقراءته العلميّة، يجد رضا أنّ “معدّلات الجريمة والعنف ستزيد للأسباب التي تمّ ذكرها سابقًا، لا سيّما في ظلّ المستجدّات الإقليميّة والضغوطات الدوليّة ومحاولات رسم خريطة شرق أوسط جديد، وتكريس الديانة الإبراهيميّة كبديل عن الديانات الحاليّة، وخلخلة البنى المجتمعيّة، وتغيير الوجه الثقافيّ لمنطقتنا”.