يوم كانت الأثواب بتوقيع ماكينة “سنجر”

ما زلت أذكر ذاك النهار حين ابتاعت أمّي قماشة طويلة مرقّطة بنقوش زرقاء، دفعتها إلى قريبتنا سميرة التي كانت تفهم كيف يتحوّل القماش إلى حياة. بعد أخذ مقاساتنا حظينا خلال أيام قليلة بخمسة بيجاماتٍ متشابهة كضحكاتنا، نمشي في البيت كفرقةٍ من الحلم تتدرّب على عرض مسرحيّ مشترك.

في شارع مارون مسك في الشيّاح، كان الخيّاط زكي عواضة يجلس خلف ماكينته كراهبٍ يحاور القدر بالإبرة والخيط. حوله أقمشةٌ كثيرة تتدلّى كقصائد معلّقة على حبل الشمس، منها ما سيغدو قميصًا لأبي عادل، ومنها ما ينتظر أن يصبح غطاء طاولةٍ لأمّ حسين، ومنها ما يتهيّأ لأن يُقصّ بنطالًا لأبي زيد.

كانت الأقمشة في تلك الأيّام أسواقًا مفتوحة في “البلد” وتمتدّ بين البربير وحارة حريك، وحي معوّض، وسوق الجمال. وقتذاك كانت متاجر الأقمشة مثل خلايا الضوء في الشوارع، تفتح أبوابها صباحًا وتغلقها مع الغروب. رفوفها امتلأت بلفائف ملوّنة تشبه مواسم الأرض، تتوزّع أقمشة قطنيّة ناعمة، وحريرية لامعة، وصوفية دافئة، وأقمشة مطرّزة بخيوط ذهبيّة للعرس والمناسبات. كانت الأمّهات يدخلن المحلّات بثقةٍ عارفة، تلمس القماش بأطراف الأصابع، تفركه بين الإبهام والسبابة لتختبر نعومته أو سماكته، ترفعه أمام الضوء لتقيس كثافته، وتشمّه لتتحقّق من نقاوته. هذه اللمسة كانت علمًا قائمًا بذاته، تُورث كما تُورث الوصفات القديمة.

 حوار بين التجارة والحنين

المحلّ هو مكان الاختيار الأوّل، والبيت هو مسرح الخلق. في الدكّان تُولد الفكرة، وفي البيت يتحقّق الفستان أو القميص. كان البائع صديق العائلة، يعرف القياسات قبل أن تُقال، ويتنبّأ بالألوان التي تناسب كلّ وجه. بعد الشراء، يعود القماش إلى البيت كضيفٍ كريم، يُمدّ فوق الطاولة وتبدأ الأمّ حوارها معه: كيف سيكون الثوب؟ هل تضيف جيبًا أم ياقة؟ هل يكون الكمّ ضيّقًا أم واسعًا؟ القماش كان مادّة التفكير اليوميّة، ومادّة الحبّ العائليّ في آنٍ واحد.

الخياطة المنزليّة

داخل البيوت، كانت ماكينة سنجر تتوسّط الغرفة مثل قلبٍ نابض. لونها أسود لامع، دواستها حديدية، حركتها المنتظمة بين القدم واليد، كلّ تفصيل فيها يشهد على زمنٍ من العمل الهادئ والدقّة. الخياطة كانت فنًّا منزليًّا يُمارَس يوميًّا. الأمّ تقيس الكتف والصدر والخصر، تضيف سنتيمترات صغيرة تحسبًّا للنموّ، وتقصّ القماش بمقصّ ثقيل كأنّه سكين القدر. تلك اللحظة لا تخلو من رمزيّة، فالقياس ليس للجسد فقط، بل للحياة. كلّ غرزة هي وعد، وكلّ خيط هو صلة رحمٍ بين البيت وأجياله.

الخياطة في البيت كانت تضمن الاستقلال الذاتيّ للعائلة. الثوب يُصنع هنا، باليد والعين والحنان. الأمر أشبه بكرامة ناعمة تحفظ للعائلة صورتها ومكانتها.

ماكينة الخياطة “سينجر” صانعة العصر الذهبي للخياطة

ماكينة سنجر كانت جزءًا من الجهاز العرسيّ مثل البرّاد والغاز والغسّالة. وجودها في البيت دليل على الجاهزيّة للحياة وعلى مهارة العروس. كانت الماكينة تُمثّل الأمان، لأنّها تمنح القدرة على إنتاج الثياب في أيّ وقت. صوتها يشبه نبضًا معدنيًّا دافئًا، يدخل في إيقاع النهار، ويصبح موسيقى مألوفة لأهل الدار. الماكينة أنقذت نساءً كثيرات من العوز، وفتحت أمامهنّ باب الرزق الكريم، وصارت علامة على ذكاء المرأة وقدرتها على العمل دون حاجة إلى معيل آخر.

“البرجاوي” بائع الألوان المتجوّل

في القرى الجنوبيّة اختلف المشهد. غياب محلّات الأقمشة ملأه البرجاويّ الذي اتّخذ من الشوارع الضيّقة والساحات محلًّا متحرّكًا، ومن المدى فضاءً لصوته مناديًا “معنا قماش معنا ترغال”. صار كلّ بائع قماش متجوّل في القرى يُطلق عليه “برجاويّ”، نسبة إلى بلدة برجا في إقليم الخرّوب، التي اشتهر أبناؤها ببيع القماش متجوّلين في القرى والبلدات، يحملون على أكتافهم لفائف القماش بألوانٍ زاهية. وما أن تسمع النساء صوت البرجاويّ حتّى يتجمّعنَ على إحدى المصاطب التي حطّ البائع رحاله فيها.

يفرش أثوابه ويدعو النساء إلى اختيار ما يُعجبهنّ. يحمل أقمشة مستوردة من دمشق أو مصر أو أفريقيا، مزركشة أو مطبوعة أو مطرّزة. البرجاويّ عرف النساء بالاسم، يعرف من تفضّل النقوش الصغيرة ومن تفضّل الألوان السادة، وكان يشارك في أفراح القرية بقطعٍ من القماش كهدايا رمزيّة.

البرجاوي كان أيضًا مرسالًا غير معلن، يحمل الأخبار من بلدة إلى أخرى، يربط الأسواق بالقرى، ويخلق حركة تبادل اقتصاديّة واجتماعيّة. الأقمشة التي يبيعها لم تكن مجرّد سلعة، بل وسيلة تواصل بين الأمكنة والناس.

 ورَش الخياطة: بوّابة المرأة والعمل

في منتصف القرن العشرين، بدأت الجمعيّات الأهليّة بالتعاون مع الدولة في تنظيم ورَشٍ لتعليم الخياطة، في المدن والقرى على حدٍّ سواء. كانت هذه الورَش نافذةً مفتوحة أمام المرأة نحو الاستقلال الماليّ والمكانة الاجتماعيّة. الفتيات اللواتي تعلّمن التطريز والخياطة أصبحن نماذج للمرأة المنتجة، إلى جانب الممرّضة والمعلّمة. لم تكن الخياطة مهنة عابرة، بل مدخل إلى نهضةٍ اجتماعيّةٍ صادقة. المرأة التي تمسك الإبرة صارت تشارك في إعالة أسرتها، وتكسب احترام المجتمع، وتفتح الطريق أمام أجيالٍ من النساء اللواتي صنعن من الخيط والقياس حياةً جديدة.

كان كلّ بائع قماش متجوّل في القرى الجنوبية يُطلق عليه “برجاويّ”، نسبة إلى بلدة برجا في إقليم الخرّوب، التي اشتهر أبناؤها ببيع القماش متجوّلين في القرى والبلدات، يحملون على أكتافهم لفائف القماش بألوانٍ زاهية

القماش المهاجر رسائل غربة

في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، حين غادر كثير من اللبنانيّين إلى أفريقيا والخليج، كان القماش هو الهديّة الأكثر شيوعًا في الحقائب. الأقمشة التي أُرسلت من داكار أو أبيدجان أو الدمّام حملت معها رائحة السفر، ألوان الغروب على الشاطئ البعيد، ونقوش المدن الأجنبيّة. كلّ قطعة كانت رسالة حبٍّ من المغترب إلى عائلته: “هذا لتفصّلي به فستان العيد، وهذا للقميص المدرسيّ”». عندما كانت الطرود تصل، تفرد في غرف البيت كأنّها احتفال. القماش يُفرش على السرير، والأطفال يلمسونه بفرح، والنساء يتبادلن الآراء حول اللون والنقشة. القماش المهاجر صار جزءًا من المشهد الاجتماعيّ، يربط الغربة بالبيت، والسفر بالذاكرة.

 تحوّل نحو الجاهز

مع تحسّن الأوضاع المادّيّة في بعض البيوت، وتراجع أسعار الملابس الجاهزة القادمة من الصين وتركيّا، تبدّلت العادات. الثياب الجاهزة ملأت الأسواق، وأصبحت أكثر توافرًا من القماش نفسه. دخلت الموضة الحديثة إلى البيوت عبر الشاشات والمتاجر، وأصبح التفصيل في البيت علامة ترفٍ أو حنينٍ أكثر من كونه ضرورة. ماكينة الخياطة تراجعت من مركز البيت إلى زاويته، والبرجاويّ اختفى من الطرقات. تحوّل فعل الخياطة إلى نشاطٍ فنّيٍّ تمارسه فئة محدودة من النساء اللواتي ما زلن يؤمنّ بجمال الصنعة اليدويّة.

في السنوات الأخيرة، ومع تفاقم الأزمات الاقتصاديّة، عادت بعض النساء إلى الإبرة والماكينة. بعض الرجال فتحوا مشاغل صغيرة في الشوارع إنّما لتعديل الأثواب بين التضييق والتوسيع، ومعالجة بعض الثقوب بطرق فنّيّة، ذلك أنّ الخياطة تستهلك كثيرًا من الوقت، ولن تكون عنوانًا للتوفير أبدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى